يُروى من باب الفكاهة الجادة أن المرأة في سالفِ العصر و الأوان، كانت عندما تريد أن ترضع طفلها، تسم الله بنية أن يكون ذا شأنٍ عظيمٍ عندما يكبر، فارساً، عالماً، قائداً، لهذا كان أجدادنا عظماء، أما اليوم فإن معظم نسائنا يرضعن أطفالهن بنية أن يناموا، لذلك الأمة معظمها نائمة، ولا نية للصحوة.
هذه الرواية وإن جاءت على شكل رواية ساخرة ومقارنة بين زمانٍ مضى لم نعشه، وبين زمانٍ نعيش فيه، إلا أنها تحمل في طياتها الكثير من العبر والعظات، وأهم عبرة يمكن تعلمها هي ما جاء في قول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام (فاظفر بذات الدين)، وهذا تأكيد نبوي على أنه ليس من الحكمةِ إنكار أو إغفال دور المرأة الأساسي في عملية صناعة الجيل، وقدرتها على تشكيل الوعي الجمعي حول قضايا خاصة أو عامة، وأنه ليس من الإنصاف إنكار بصماتها في جسد طقوس الحياة.
فمنذ القدم والمرأة تؤثر في محيطها بحسب المساحة المتاحة لها، فهي ليست شيئاً ثانويا، بل هي عامل أساسي، ولها دور خطير وعظيم في الأسرة، خاصة إن تشربت وتشبعت بالفكرة، فلن يقف أمام أداء رسالتها أي عائق، فهي إما أن تكون رافعة لأولادها إلى أعلى الدرجات، وتأخذ بأيديهم إلى بر الأمان وتجعلهم أئمة وخلقهم القرآن، أو خافضة لهم إلى أدنى الدركات.
لذى نرى الأعداء يحاولون السيطرة على عقول النساء؛ لأن ذلك يسهل عليهم إيصال أفكارهم الخبيثة إلى النشء، باعتبار أن فترة تواجد الأم مع أولادها هي مدة كبيرة، وهذا يعطيها فرصة لتشكيل شخصية الطفل نفسياً وعقلياً ووجدانياً، ولو هدمت نفسية وفكر المرأة وعفتها ومفاهيمها حول الله والدين والأشياء فسيسهل هدم أي شيء.
وربما بحكم أننا في فلسطين فقد لعبت الأم الفلسطينية دوراً عظيماً جداً في تعزيز الوازع الديني والوطني في نفوس أولادها، حيث إنها تزرع في نفوسهم حب الوطن، وأن حب الوطن لا يجب أن يقف عند حدود الأقوال، وأن الروح مهما كانت غالية فهي رخيصة في سبيل الله ثم الوطن، وأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، فتحدثهم عن فلسطين وعن جرائم الصهاينة بحق فلسطين وأهلها، وتدفعهم للجهاد والمقاومة وتشجعهم للاشتراك في المخيمات الصيفية التي تنظمها المقاومة لتدريبهم على القتال كل حسب استطاعته.
وقد أحسن الشعراء في وصف قدر المرأة وقدرتها على الإبداع في بناء جيل رائد عملاق، حيث قال الشاعر حافظ إبراهيم:
الأُمُّ مَـدْرَسَــةٌ إِذَا أَعْـدَدْتَـهَـا أَعْـدَدْتَ شَعْبـاً طَيِّـبَ الأَعْـرَاقِ
الأُمُّ رَوْضٌ إِنْ تَـعَهَّـدَهُ الحَـيَــا بِـالـرِّيِّ أَوْرَقَ أَيَّـمَـا إِيْــرَاقِ
الأُمُّ أُسْـتَـاذُ الأَسَـاتِـذَةِ الأُلَـى شَغَلَـتْ مَـآثِرُهُمْ مَـدَى الآفَـاقِ
ولا أخال أنه تطرف في هذا الوصف، بل كان في قمة التواضع في وصف الأم أمام عظيم عطائها فهي التي تحمل وتلد وتربي وتعلم وترشد وتصقل شخصية أولادها كي يكونوا في أحسن تقويم خُلقي، ويدخلوا سفينة المستقبل وهم في أفضل حال.
ولم يكن هذا الرأي بدعاً من الآراء، بل إن أمير الشعراء أحمد شوقي يقول (وإذا الـنساءُ نـشأنَ فـي أُمّيَّةٍ... رضـعَ الـرجالُ جهالةً وخمولا) وهذا تأكيد أن الأم هي صمام أمان الاسرة من الضياع، فلو فقدت حس الانتماء للدين سيسير أولادها على ذات النهج لأنهم رضعوا ذلك الفتور الديني من تربية أمهم كما رضعوا الحليب من ثدييها، ولو انعدم أو انخفض مستوى انتماء الأم سيكون انتماء أولادها لوطنهم في أدنى مستوياته.
ختاماً: لا أقصد بالأم هنا الأم المسلمة فقط، بل إن الأم مهما كان لونها وجنسيتها وديانتها، قد تكون معول هدم، وقد تكون معول بناء.