ليس مصادفة أن يحتل شهر #رمضان كل هذا الاهتمام من المسلمين على مستوى العالم، وفي كل زمان، وقد كرم شهر رمضان بالقرآن؛ ولذلك فرض فيه #الصيام على المسلمين، والصيام هو أول درجات جهاد النفس والتحكم بها، وفرض سيطرة الوازع الديني الداخلي عليها، فلا مطلع على الصائم سوى الله وحده، فكان الصيام بذلك درجة من درجات الهمّة العالية وجهاد النفس، ومقدمة لما هو أكبر، الصيام مقدمة وتحكم في النفس طاعة لله؛ للوصول للجود بها في سبيل الله .
والمتأمل في تاريخ الأمة يلاحظ أن كل التحولات الكبرى في تاريخ المسلمين كانت في هذا الشهر الكريم، كل انتقال من مرحلة لمرحلة أخرى، من الضعف إلى القوة، ومن المذلة إلى العزة، ومن التبعية للريادة، ومن الإقليمية للعالمية.
وفي كتاب الله تعالى نجد ارتباط الصيام بالجهاد ظاهراً، وكأن الصيام مقدمة للجهاد، ففي سورة البقرة بداية من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[البقرة: 183] إلى آخر الآيات، تنتهي بتلك الآيات ربع حزب من السورة، ليبدأ ربع حزب جديد تكون فيه آية الجهاد والقتال هي الثانية، يقول ربنا عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ* فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:190-193].
الصيام هو إعداد للنفس؛ لتحمل تبعة الجهاد، وإعداد للجسد وتقوية له وتطهير، وإعداد للأمة جميعها
فالصيام هو إعداد للنفس؛ لتحمل تبعة #الجهاد، وإعداد للجسد وتقوية له وتطهير، وإعداد للأمة جميعها، وقدر الله أن يكون أول خروج للمسلمين لقتال المشركين في رمضان في السنة الأولى من الهجرة، ولم يكن قد فرض الجهاد بعد، كانت سرية لحمزة بن عبد المطلب بعد أن أذن الله عز وجل للمؤمنين بالقتال، لكن لم يتم القتال في هذه المرة ليشرف شهر رمضان ليس بالصيام فقط، وإنما بأول نصر مؤزر لفئة قليلة بعد عام واحد من تلك السرية، لينتصر المسلمون وهم صائمون في غزوة بدر الكبرى؛ ولأنه لا يحدث في العالم شيء على سبيل المصادفة، وإنما هي أقدار وضعها الله عز وجل وقدّرها للبشر، كانت غزوة بدر في رمضان أثناء الصيام في وسط الصحراء، وذلك لحكمة وإشارة لعظمة تلك الفريضة، وكونها دافعاً للعمل والبذل والنجاح والعزة، وليس مجرد شهر لحرمان النفس من الشهوات، إنها إشارة للأمة التي تحولت من الدنيّة إلى نصر والمقاتلون صائمون، وانتقال من حالة لحالة، يقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ...}. وأنتم ماذا؟ {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].
بعد بدر أصبح للمسلمين كيان معترف به، ليس في الجزيرة العربية وحسب، وإنما في الدول المجاورة لها، خرج المسلمون من دائرة المطارَد، لدائرة الكيانات المنظمة التي يخشى جانبها، أصبح للإسلام دولة يشار إليها على أنها دولة المسلمين في المدينة المنورة.
فكانت "بدر" في رمضان هي معركة الفرقان، هي التي فرقت بين وضع ووضع، وبين مكانة ومكانة أخرى، فرّقت بين الحق المطارد، والباطل المهزوم.
كانت "بدر" في رمضان هي معركة الفرقان، هي التي فرقت بين وضع ووضع، وبين مكانة ومكانة أخرى، فرّقت بين الحق المطارد، والباطل المهزوم
بعد بدر انتبه يهود المدينة لخطر الإسلام القادم لانتزاع مكانتهم الدينية الزائفة، وأخرج المنافقون ما في قلوبهم من غلّ، وتمايزت الصفوف، واطلع الله على أهل بدر فغفر لهم، وكان لهم السبق في حمل السيوف، وبذل النفوس مختارين، ولا نبالغ حين نقول: إن أول صيام للمسلمين في أول رمضان لهم في أول غزوة، كل هذا غيّر مجرى التاريخ، ووضعت قواعد النصر الذي لا يرتبط بعدد أو بعدّة، فما فائدة العدد إن كان غثاءً كغثاء السيل، وما فائدة العدة التي لا توجه إلا لصدور الأبرياء ، وفي سورة الأنفال يرجع الله عز وجل النصر له وحده، وإرادته هو للأمة التي تستحق مهما بلغ ضعفها، فقط إن هي بذلت كل استطاعتها، حتى لو كانت استطاعة أقل من المطلوب لصناعة النصر المنشود، فيقول الله تعالى -في الآية العاشرة من سورة الأنفال-: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وليس مصادفة أيضاً أن يكون فتح مكة الذي مثّل اللقاء الأخير بين المسلمين ومشركي مكة، ففي سنة (8هـ) خرج جيش المسلمين في العاشر من رمضان قاصداً مكة، في نهاية الثلث الأول من شهر رمضان، والناس تتنعم بالصيام، والقيام، والقرآن، وجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. أليس كان من الأجدى أن يبقى المسلمون في تلك الأجواء الإيمانية؟! أليست عبادة الله أولى من الخروج مقاتلين، والتّخلي عن الصلاة في مسجد رسول الله؟! كلا ثم كلا!
فالجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو من أجلِّ العبادات، وعبادة الصوم دافعة له وليست مانعة، فلا تتناقض عبادة مع عبادة، ولا تعطل عبادةٌ عبادةً أخرى، ورمضان الذي هو جهاد للنفس لا يعطل فريضة الجهاد التي هي جهاد لمجموع الأمة، فعندما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم شقّ على الناس الصيام، وكان الوقت عصراً، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يأمر بماء، ثم يتناوله أمام الجيش قبيل المغرب بقليل، فالصوم الذي يقضي في أوان آخر، يعلّمنا أن الجهاد لا يؤجّل لأي حين!
الجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو من أجلِّ العبادات، وعبادة الصوم دافعة له وليست مانعة، فلا تتناقض عبادة مع عبادة، ولا تعطل عبادةٌ عبادةً أخرى
في نفس الشهر يهدم خالد بن الوليد صنم العزى، ويهدم عمرو بن العاص صنم سواع، ويهدم سعد بن زيد صنم مناف، هي بالنسبة لنا أصنام من حجارة، وبالنسبة لهم كانت آلهة تعبد من دون الله.
في (13هـ) استطاع "المثنى بن حارثة" بعدد ثمانية آلاف من المسلمين أن يواجهوا جيشاً من الفرس قوامه مائة ألف بقيادة "مهران" أعظم قادة الفرس، وكان التوقيت في الأسبوع الأخير من رمضان، وأمر المثنى جيشه بالفطر اقتداءً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، وثبت المسلمون ثباتًا عجيبًا، وأبلى المثنى وبقية الجيش بلاءً حسنًا، وتنزَّلت رحمات الله وبركاته على الجيش الصابر، فانتصر المسلمون انتصارًا ربانياً هائلاً، وكان عدد القتلى في صفوف الفرس عدداً هائلاً، ليصدق قول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}[الأنفال: 17].
وجهاد المسلمون في رمضان لا يحصى، وانتصاراتهم في هذا الشهر لا تعدّ، فهذا "معاوية" رضي الله عنه يرسل "جنادة بن أبي أمية الأزدي"؛ ليجاهد في سبيل الله بحراً في رمضان (53هـ)، فلم يؤجل لما بعد رمضان مع صعوبة القتال بحراً، فَيَمُنّ الله عليهم بفتح جزيرة" رودس".
وهذا "طارق بن زياد" يقابل مائة ألف صليبي فقط باثني عشر ألف رجلٍ مسلمٍ في رمضان (92هـ)، وفي عقر دارهم؛ لتستمر الحرب ثمانية أيام متصلبة، ينتصر فيها جيش المسلمين نصراً مؤزراً، ويبدأ المسلمون على أثر تلك المعركة تاريخاً جديداً يمتد إلى ثمانية قرون في الأندلس.
ويكمل "صلاح الدين الأيوبي" مسيرة الجهاد، ومن بعده "سيف الدين قطز"؛ ليثبت كل هؤلاء العظماء أن لهذا الشهر فضلاً، وأن تلك العبادة تمثل زاداً ودافعاً للتغيير الكبير الذي نرنو إليه، وتنتظره الأمة لإعادة أمجادها، ليس المسلمون وحدهم من ينتظرون ذلك اليوم، وإنما أصبح العالم كله في حاجة شديدة لعودة المسلمين إلى دينهم؛ لإنقاذ البشرية من دمار محقق !