دائماً ما يبحثون عن أي طعن في الدين، فروضه وسننه، قرآنه وسنته، عباداته وأحكامه ومعاملاته، تاريخه وسيَر أعلامه.
هذا هو حال علمانيي أوطاننا، أولئك المتغربون الحاقدون، اللاهثون وراء أية شاردة وواردة؛ من أجل أن يثيروا الضجة، ويثيروا الشكوك والوساوس ما أمكنهم ذلك، وإنّ أمكرهم وأخبثهم هؤلاء الذين يثيرون الشكوك مغلفة بأغلفة إيمان مدّعى!
ولا ينفي ذلك وجود بعض المخلصين فيهم، المخلصين لأوطانهم يريدون نهضتها وتقدمها بعد حريتها واستقلالها، والمخلصين لأفكارهم يرون فيها الخلاص والنجاة، غير رافضين للدين ولا حاقدين عليه، ولا منشغلين بالطعن فيه، وهؤلاء قلة غير أنهم موجودون.
وهؤلاء القلة من العلمانيين والليبراليين المخلصين يجب علينا أن ننظر في معطياتهم ونتائجهم التي يذهبون إليها، ولن نعدم فيها من فائدة، فليست كل أفكارهم باطلة، وليست كل مذاهبهم مناقضة للدين والوحي، بل ربما يكون في بعض طرحهم تصويب لخاطئ الأفكار التي علقت بالعقل المسلم على مدار عقود، وتجلية لبعض الأفكار الإسلامية الصحيحة التي رفضها العقل المسلم، ظنّاً بأنها مضادة للدين أو خارجة عنه أو منتقصة منه.
كان الكاتب الصحفي والروائي "إبراهيم عيسى" ممن أظنهم من هذه القلة المخلصة لأوطانها وأفكارها، غير رافضة للدين ولا حاقدة عليه، ذلك يوم أن كان في زمان الرئيس "مبارك" أول من وجّه النقد إلى شخص الرئيس مباشرة، وكان هذا تحوّلاً كبيراً في المعارضة السياسية للنظام الحاكم التي كانت تعتمد قبل ذلك على نقد الوزارات المتعاقبة مع بقاء منصب الرئيس خارج دائرة النقد والمساءلة السياسية والإعلامية، لكن إبراهيم عيسى كان أول من كسر هذا المحظور، وبدأت من يومها القدرة على النقد المباشر لرئاسة الجمهورية ومساءلتها.
وفي ظني أن هذا كان مع غيره من الدوافع الكبيرة لتمهيد الأرض السياسية المصرية لثورة الخامس والعشرين من يناير، فبعد أن استطاع الجميع أن يتحدثوا عن أخطاء النظام القائم وأخطاء رأسه المتمثلة في رئيس الجمهورية ويكتبوا عنها، بدأ الجميع في الحشد ضد هذا النظام، وبدأت حركات التغيير في الإعلان عن نفسها: (حركة كفاية والجبهة الوطنية للتغيير)، ولمّا جاءت شرارة الثورة من تونس عندما أحرق البوعزيزي نفسه، وجدت الشرارة واقعاً مصرياً يوشك على الاشتعال، بل ينتظر ذلك الاشتعال، فاشتعل وكانت الثورة.
في هذا التوقيت كان "إبراهيم عيسى" يكتب في الإسلاميات، في نقد بعض الصحابة وبعض الممارسات منهم، وكنت في هذا الوقت وغيري مأسورين بآرائه ومواقفه السياسية، فكنّا نحاول أن نقبل آراءه الدينية، ونعتبرها من قبيل الرأي والاجتهاد، مع ما فيها من غرابة وخروج عن المألوف.
(الموقف الأخلاقي القيمي قبل الموقف الفكري)، تحت هذا العنوان كتبت في موضع آخر...، وهذه الجملة تعني أن من حقنا بل من الواجب علينا أن ننظر في الموقف الأخلاقي القيمي لصاحب الرأي والفكر والاجتهاد، فإن كان منضبطاً أخلاقياً وقيمياً فمن الواجب علينا أن ننظر في منتجه الفكري، فربما يصيب فنأخذ بما أصاب فيه، أما إن وجدنا مفكراً وصاحب رأي عديم القيم والأخلاق والمبادئ، فإن الواجب علينا أن نطرح فكره ورأيه، حتى إن أصاب في بعضه، فإن ما يصيب فيه لن نعدمه من غيره من أهل الرأي الكرام، أهل المبادئ والقيم والمواقف.
من حقنا بل من الواجب علينا أن ننظر في الموقف الأخلاقي القيمي لصاحب الرأي والفكر والاجتهاد، فإن كان منضبطاً أخلاقياً وقيمياً فمن الواجب علينا أن ننظر في منتجه الفكري، فربما يصيب فنأخذ بما أصاب فيه، أما إن وجدنا مفكراً وصاحب رأي عديم القيم والأخلاق والمبادئ، فإن الواجب علينا أن نطرح فكره ورأيه
كان "إبراهيم عيسى" ذات زمان من أهل القيم والمواقف والمبادئ، أو هكذا كان يتظاهر، فكنّا ننظر في منتجه الفكري رغم الغرابة في بعضه والمخالفة للمتعارف عليه، فلمّا جاءت ثورة يناير، وانكشف الرجل فيما بعدها، وظهر حقده المرضي على الإسلاميين ومشروعهم السياسي، بل وعلى الدين الإسلامي وشريعته كلها، ألقينا به وبكل فكره وآرائه في مزبلة التاريخ.
لقد سخّر الرجل كل منابره للطعن في الإسلاميين وفي مشروعهم، وشارك في الانقلاب عليهم في الثلاثين من يونيه، ثم سخّر كل منابره بعدها في الطعن في شريعة الإسلام وتاريخه، وها هو يستمر في القيام بدوره في صحيفته "المقال"، وفي برنامجه التلفزيوني (مختلف عليه) على تلفزيون الحرة، ولما وجد الرجل إعراضاً عنه، فصحيفته تكاد تتوقف عن الصدور؛ لقلة الإقبال عليها، وبرنامجه الجديد ذو مستوى مشاهدة متدنٍ جداً، عمد الرجل إلى إلقاء رأي صادم لتعاد الأنظار إليه، وتتجادل الألسن عليه، ويعود له بعض من الوجود المفقود.
قال الرجل في برنامجه التلفزيوني: "إن الصيام قرار سيادي إلهي، يجب الإذعان له، دون البحث عن أية فائدة له؛ لأن الصوم ليست له أية فوائد، بل إنه يضعف الجسد!".
كلام خبيثٌ مغلف بغلاف خادع!
فأما عن كون الصيام قرار سيادي إلهي يجب الإذعان له، فهذا كلام صحيح لا يماري فيه أحد، وكل أحكام الله وقراراته سيادية، ليس للعبد المؤمن أن يراجع فيها سيده وخالقه، فالله سبحانه وتعالى هو الجهة الوحيدة التي تُقبل لها الطاعة العمياء، بل تجب لها هذه الطاعة العمياء.
أما عن كون الصيام قرار سيادي إلهي يجب الإذعان له، فهذا كلام صحيح لا يماري فيه أحد، وكل أحكام الله وقراراته سيادية، ليس للعبد المؤمن أن يراجع فيها سيده وخالقه، فالله سبحانه وتعالى هو الجهة الوحيدة التي تُقبل لها الطاعة العمياء، بل تجب لها هذه الطاعة العمياء
و كما قال أحد الدعاة الكبار تعليقاً على تشريع إلهي تخفى حكمته عن العقول البشرية: "إن الله يحب أن يرى أثر قيوميته على عباده".
نعم، بعض التشريعات والأحكام تخفى عن العقول حكمتها، وربما لا توجد هذه الحكمة من الأساس، غير التأكيد على عبودية العباد لله وإمضائهم لأمره والإذعان له؛ لتأكيد قيومية الله على عباده، لكن وبرغم ذلك، فإن الله عز وجل يحب من عباده أن ينظروا في كل تشريع وحُكم وعبادة؛ ليروا الحكمة فيها، حتى يكون ذلك أدعى لإذعانهم لها وإقبالهم عليها، وكذلك دعوة الآخرين لها من خلال الحديث عن حكمتها الكلية وحِكمها التفصيلية.
ولذلك فكلام "إبراهيم عيسى" عن وجوب الإذعان لقرار الله بالصيام دون البحث عن أية فائدة له هو كلام خبيث، ينطوي على محاولة لإبطال الحكم والفوائد في تشريعات الله وأحكامه، وهي فوائد وحكم تكاد تشمل كل هذه الأحكام والتشريعات، ولا يخرج عن ذلك إلا ما ندر.
أما عن جزم الرجل وقطعه بأن الصوم ليست له أية فائدة، فهو خبثٌ للرجل في أوضح صوره!!
ما هذه الجرأة على القطع بعدم فائدة الصوم مع أن الجميع في العالم كله يتحدثون عن فوائد الجوع في تحسين الصحة، وتنشيط الجسم، والتخلص من أمراضه وسمومه.
يقول أحد خبراء التغذية في الوطن العربي، "د.صالح بن سعد الأنصاري" تحت عنوان "اصطلحوا مع الجوع": "يجمع العلماء على فوائد الجوع لفترات قصيرة للجسم، فأثناء الجوع يبدأ الجسم في تنظيف الأمعاء والكبد والدم من السموم، وتتقلص أمراض الأوعية الدموية، كما أن الجوع لفترات قصيرة ينشط المناعة"، فما علم الرجل أي حديث للأطباء وعلماء التغذية عن ذلك؟!
يجمع العلماء على فوائد الجوع لفترات قصيرة للجسم، فأثناء الجوع يبدأ الجسم في تنظيف الأمعاء والكبد والدم من السموم، وتتقلص أمراض الأوعية الدموية، كما أن الجوع لفترات قصيرة ينشط المناعة
لو كان الصوم ممارسة قديمة لحضارة من الحضارات القديمة -الحضارة الفرعونية المصرية مثلاً- لتحدث الرجل وأمثاله عن فوائده العظيمة، وعن عِظم الحضارة المصرية القديمة ونبوغها، وتوصلها لما لم يصل إليه غيرها، وما بات العلم الحديث يجزم بفوائده العظيمة التي لا يماري فيها أحد، ليذهب "إبراهيم عيسى" وليقرأ عن فوائد الجوع على الجسم والصحة إن لم يكن قرأ، وليسمع إن لم يكن سمع، وهو أمر لا يحتاج إلى قراءة وسماع.
أما أتاه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه) [أخرجه الثلاثة، والحاكم وصححه]. أما تعطي له كل هذه الأحاديث إشارات بفائدة الجوع والصيام، وهناك الحديث عن فوائد الصيام التربوية، حيث التحكم في النفس، ومنعها عن المتاح والمباح، ومن ثم القدرة على منعها عن الممنوع والمكروه.
وأعود وأقول، لو كان هذا ممارسة من ممارسات (اليوجا) مثلاً، كتدريب روحي بشري لأمة من الأمم؛ لتحدث الرجل وأمثاله عن عبقرية هذا التدريب وفوائده العظيمة في تربية النفوس وتهذيبها.
وهناك الحديث عن الإحساس بجوع الجائعين واحتياج المحتاجين، عندما يشتدُّ الجوع على الصائمين، ويرون حينها أن لقمة واحدة وجرعة ماء واحدة تعدل الدنيا وما فيها، وإن غيابهما عن المحتاجين أمر يجب على المجتمع كله أن يسعى لإنهائه واجتثاثه.
ثم الإحساس بفضل الله وكرمه في إيجاد الطعام والشراب لنا، وفي إباحته لنا طوال العام، من أجل أن تطيب أجسادنا به، ولتطيب نفوسنا بحمد الله والثناء عليه والامتثال لأمره، فهو الخالق الرازق، المطعم الساقي، ولو أراد المنع لقضى به، سبحانه وتعالى.