في غمرة إقبال كثير من الصائمين على التبتل والعبادة، وحمل أنفسهم على النأي عن ارتكاب الذنوب في هذا الشهر الفضيل؛ ينغمس صائمون آخرون في أوحال الكبائر المهلكة التي تحبط الأجور، وتذهب بالحسنات، وكأن الواحد منهم حجز بصيامه مقعداً في الجنة، وما علم هذا "المسكين" أن الله تعالى غني عن ودعه الطعام والشراب، ففي الحديث المرفوع الذي رواه البخاري: "من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
ولعمري؛ لو ترك هذا العبد قول الزور والعمل به، وضمّ إلى هذا الترك الطعام والشراب، فهل لله حاجة في ذلك؟ كلا.. فالله غني عن العالمين، غني عن ساعات القيام الطوال، وعن صدقات المحسنين السائرة كالريح المرسلة، وعن جوع الصائمين وعطشهم ومكابدتهم رمضاء الصيف.
قد يقول قائل: إن مفهوم المخالفة يدل على أن العبد إذا ترك الطعام والشراب وقول الزور؛ فإن لله حاجة في ذلك. فأقول: هذا فهم مغلوط، ودلالة مفهوم المخالفة لا تنهض لدفع مسلّمات العقيدة التي تقول: إن الله سبحانه لا يحتاج إلى عمل أحد من خلقه، فضلاً عن النصوص الشرعية الأخرى المحكمة الدلالة، كالحديث القدسي المتفق عليه: "يا عبادي! لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم؛ كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي! لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم؛ كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا...".
ويستقيم معنى الحديث، وتتسق كلماته في فهم مستقيم؛ إذا قيل إن المقصود منه؛ هو أنه لو كان لله حاجة في أن يدع العبد طعامه وشرابه - وهذا ممتنع قطعا؛ فالحاجة هنا معدومة - فمن باب أولى أن لا يكون له حاجة في ذلك لمن تلبّس بقول الزور والعمل به، فتارك الطعام والشراب إن كان صادقاً مخلصاً في هذا الترك، فما الذي يمنعه من ترك قول الزور والعمل به، وهو أولى بالترك من الطعام والشراب؟
إن كان تارك الطعام والشراب صادقاً مخلصاً في تركه، فما الذي يمنعه من ترك قول الزور والعمل به، وهو أولى بالترك من الطعام والشراب؟
إذن؛ الله تعالى ليس له حاجة في صيام الخلق وصلاتهم وقيامهم.. فهم المحتاجون إليه، وحاجتهم إليه لا يحدها زمان ولا مكان..
هم في حاجة إلى الله في جميع أحوالهم وأوضاعهم.. في حاجة إليه قبل الموت وبعده، في رمضان وفي غيره..
فيا أيها المحتاج إلى الله! ما قيمة أن تدع الطعام والشراب، وهما الأمران المباحان، وتحرص في الوقت ذاته على إتيان ما يجلب غضب الرب سبحانه؟!
يا أيها المحتاج إلى الله! ما قيمة أن تدع الطعام والشراب، وهما الأمران المباحان، وتحرص في الوقت ذاته على إتيان ما يجلب غضب الرب سبحانه؟!
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر".
تأمل - أيها المحتاج إلى الله - هذه العبارة (إذا اجتنبت الكبائر) ففيها تنبيه لك على أن تكفير الذنوب بين هذه الطاعة وتلك؛ إنما هو مشروط باجتناب كبائر الذنوب التي بينهما، وما أخل عبد بهذا الشرط إلا حُرم من هذا الفضل العظيم، والكرم السابغ الجزيل.. هذا إن كان الإخلال بين الطاعة والطاعة؛ فكيف لو كان أثناء أدائهما، كمن يأتي الكبائر في رمضان، ويصر على إتيانها في رمضان التالي؟! نسأل الله العفو والعافية.