أتوجس من الأسئلة التي تبدأ بـ "ما رأيك؟"، وتضايقني كثيراً حين تكون من نوع:
• ما رأيك في تعدد الزوجات؟
• ما رأيك في ختان الإناث؟
• ما رأيك في تزويج المرأة دون إذنها؟
• ما رأيك في صلاة المرأة بالبنطال؟
فأما توجسي من أسئلة "ما رأيك؟" فلأن اعتياد الناس التعلم عن طريق الفتوى (أي نظام س و ج)، جعل الناس تدمن السؤال عن الرأي "عمّال على بطّال"، ودون اعتبار غالبًا لأهلية المسؤول في المسألة، أو مدى جداراته أصلًا بأن يكون له رأي يحترم ويُطلب. ولا أستبعد لو قام تاجر خضار يحاضر في الناس عن زراعتها ومحصولها وفوائدها، أن يتطوع أحدهم بسؤاله عن رأيه في تخمير العنب!
وأما ضيقي من نوعية تلك التساؤلات بالذات، فلأن سيادة مفهوم الرأي –بتشوهاته- على حياتنا الفكرية، الإسلامية غير المسلمة، طمَسَ تمييزنا بين الأحكام الشرعية والرأي الشخصي –أولًا- (وهذه غير الرأي بالمعنى الاصطلاحي للاجتهاد)، ثم ضوابط حركة الرأي في الحكم وليس عليه ثانيًا. ومع أن هذه التفرقة من البدهيات في مجالات العلوم والصناعات، حيث لا يجرؤ محترم لنفسه أن يتطوع بالفتيا في غير تخصصه "الدقيق"، إلا أن ميدان الشرع بالذات يبدو مسبحًا مستباحًا لكل سابح بإطلاق ، وله الاختيار بين الإدلاء بآرائه أو طلب رأي جاهل مثله.
غالب ما يسأل فيه الناس اليوم –خاصة المسلمين- من "قضايا" ما زالت تدهشهم وتستشكل عليهم، لها أحكامها المستقرة شرعاً وضوابطها التنزيلية عرفاً
ومن جهة ثالثة، فغالب ما يسأل فيه الناس اليوم –خاصة المسلمين- من "قضايا" ما زالت تدهشهم وتستشكل عليهم، لها أحكامها المستقرة شرعاً وضوابطها التنزيلية عرفاً. وإنما المشكلة في:
-نزعة اختراع العجلة التي استوردها منتسبون لتيارات الفكر من المسلمين، والتي تتعارض مع تعريف الإسلام باعتباره تسليماً لتصور الموجِد الذي وضعه للوجود وفيه بالفعل.
-ومعها جهل المسلمين القادح بما زعموا الإسلام به من أحكام الخالق، فيدفعهم لطلب رؤى المخلوقين فيه.
-وختامًا غياب التمييز –أو تعمّد عدم التمييز- بين الأصل والتنزيل والحكم والفتوى، فيسوقهم للجدل العقيم.
فلنأخذ مثلاً سؤال تعدد الزوجات.
غالب السائلين والسائلات عن الرأي في تلك القضية يدورون حول محورين:
-فيم زواج الرجل على زوجته الأولى رغم كمالها وكفايتها له؟
-تضرر الزوجة الأولى من الزيجة الثانية، بما يتجاوز مفهوم "التضرر" اللغوي والشرعي (كوقوع الغيرة وقسمة المبيت... إلخ)، ليصل لتجريم "الفعلة أو العملة" في حق الزوجة الأولى، واعتبارها مسألة خيانة أو ولاء وبراء...!
ومن نافلة القول أن نبرات تلك الأسئلة واصطلاحاتها تشي بالفعل عن آراء جاهزة في الموضوع لا تحتمل فيها رأيًا أصلاً ناهيك أن يكون مخالفاً! لذلك فلندع الرأي جانبًا، وطالما أن هذه قضية شرّع فيها الشارع، وطالما أننا مؤمنون بالشارع، كان لزامًا قبل أي خوض في الأمر الوقوف على قول الشارع نفسه فيه (بصورة عامة جدًا لا يُعوَّل عليها في بناء التصور الشرعي للقضية عند الجاهل بأحكامها).
طالما أن هذه قضية شرّع فيها الشارع، وطالما أننا مؤمنون بالشارع، كان لزامًا قبل أي خوض في الأمر الوقوف على قول الشارع نفسه فيه
-أما المحور الأول، فالشرع فيه على إباحة زواج الرجل ممن تحل له من النساء حتى أربعة، انتهى. أي تطوع آخر بفتاوى وشروط لتلطيف الأجواء على النفوس، كتضييق اختيارات حلال النساء في الأرامل والمطلقات أو العجائز والكبيرات، فرؤى ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ثَم لا وجاهة لها (أي للتضييق لا لذات الاختيارات).
-وأما كمال الزوجة الأولى وكفايتها لزوجها، فالتعدد لم يُشرَع لعيب بالضرورة في الزوجة الأولى، بل لسَعَة بالطبيعة في طاقات الرجل. ثم إنّ مفهوم الكفاية وتحقيقها عند المرأة غيرها عند الرجل، بل إن أمرًا كغض البصر وإن كان واحداً للرجال والنساء، إلا أنّ أثره وعواقبه وصعوبته تختلف تماماً بينهما. ومن السذاجة السَّمِجَة توحيد أو تحييد شؤون الغرائز والجبلة بين الجنسين سواء بسواء، وذلك لا يقول به أهل العلم حتى من الثقافات الأجنبية للمُغرمين بها. ويبقى إقرار بدهية أن الذي شرّع الشرع هو نفسه الذي خلق، جل وعلا، فما للمخلوقين والافتئات على تشريع خالق أو طبيعة خِلقة؟!
-وأما تضرر الزوجة الأولى ففيه وجاهة لا إنكار لها، لكنه ليس على الصورة الدرامية التي تسود النفوس اليوم إثر ثقافة مشحونة بالعقد والضغائن منذ الصغر، ولا تترك فطرة على حالها من أولى السويعات بعد الولادة. فأية فطرة يُستشهد بها اليوم –كغيرة النساء- ينبغي الوضع في الاعتبار مضاعفتها بإضافات بهارية حارة، من أثر سنوات تنشئة معقدة، وجهالة شرعية وشخصية مركبة، وثقافة إعلامية مغرضة، تتجمع كلها في ركام يطمس الفطرة أو يشوهها على الأقل.
-كون هناك تطبيقات خاطئة وشنيعة مجتمعياً للتعدد، ملف منفصل.
-كون التعدد له رجاله وليس كل رجل يحسنه أو يقدر عليه بحقه وسياسته، ملف ثانٍ.
-كون هناك أعراف اجتماعية -معتبرة أو غير معتبرة - تؤثر على إمكانية تطبيق التعدد أو إقراره عملياً لا من حيث المبدأ، ملف رابع.
-كون الشرع أباح التعدد ولم يُلزِم به، فقد رتّب على الإباحة مسؤوليات لازمة، تحفظ لكل الأطراف الحقوق التي يمكن حفظها (ليس من بينها بطبيعة الحال التحكم في الميل القلبي بذاته، وإنما سياسة المعاملة وحكمة الموازنة)، ويترتب عليها إثم بحسب التقصير فيها. فألا تعي الزوجة تلك المسؤوليات المترتبة والحقوق المحفوظة، ولا يكون عندها فقه أصلاً، ولو بشؤون المرأة فتضيع نفسها بنفسها، ثم لا يعيها زوج منزوع المروءة وعديم حس المسؤولية، يطير فرحاً بالإباحة وتستهويه المتعة الجديدة فحسب، ملف خامس.
وهكذا، يمكن أن نعدد آلاف الملفات المُشكِلة، سنجد أن إشكالها فيها ومنها، لا علاقة لها بما قرره الشارع وخلقه الخالق، ولا مجال فيها للرأي على الحقيقة أو لتضييق حلال وتوسعة حرام. بل ما سيتطلبه الأمر اتخاذ كل طرف معنيّ موقفًا خاصًا وحاسمًا على بصيرة ونظر في العواقب. فليس ثمة قاعدة عامة عن "القرار الصحيح" يمكن إقرارها بصفاء عن التعدد من حيث تطبيقه، وإنما كل بحسبه في سياقه.
ورأس الإشكالات الحقيقية عند المسلمين إشكال أدبي يتمثل في نزعة ندية لا تفرّق بين منزلة الرب ومنزلة العبد، فاحترام تشريع الخالق من حيث هو تشريع الخالق، والإقرار به على وجهه إقرار عبد، مرتبة أساسية لتحقق الإسلام فيك، ثم تكون مجاهدة النفس عند التنزيل كل بحسبه، ولا يُجبر أحد في مجاهداته على مستويات لا يطيقها طالما لا يقصّر عن واجب مفروض ولا يبلغ محرّماً ممنوعاً. لكن غالب المسلمين اليوم لم يتحقق بالمرتبة الأساسية ناهيك عن الكلام فيما يليها!
احترام تشريع الخالق من حيث هو تشريع الخالق، والإقرار به على وجهه إقرار عبد، مرتبة أساسية لتحقق الإسلام فيك، ثم تكون مجاهدة النفس عند التنزيل كل بحسبه، ولا يُجبر أحد في مجاهداته على مستويات لا يطيقها طالما لا يقصّر عن واجب مفروض ولا يبلغ محرّماً ممنوعاً
وقس على بقية الأسئلة نفس المنهاج الفكري المعوج. وإنما الرأي -إن كان ثمة رأي- هو التنبيه إلى أن أركان تكوين "رؤية" لهذه القضية كغيرها من القضايا المعاد تدويرها، هي:
-فقه لتصور الشارع للوجود كما شرعه، وفهم لطبائع الأشياء والجبلات، وعقل للعواقب والمآلات.
-ثم نفسٌ مسلمة على قدر من التقوى والزكاة، تختار كيفية تعاملها مع السياقات تعاملاً رشيداً، بما يحقق لها مقصدها الرئيس من الوجود في هذه الحياة الدنيا التي تعقبها حياة آخرة.
-ثم ليُكرِم كل مسلم نفسه بإبقاء لسانه في فمه، فلا يخرجه إلا لحاجة حقيقية، كالتكلم عن علم لا مجرد الثرثرة الفلسفية، أو السؤال عن أدب استفهام لا عنجهية جدال.
والله أسأل السداد والسلامة.