إنّ شوق المؤمن للحظة استقبال رمضان تفوقُ كل معنى، ولهذا نَخفقُ حباً كلما لاح هلاله، وتغمرنا نشوة الفرح كلما ذُكِر اسمه؟ لكن هناك فرق كبير بين من يشتاقون إلى سماع صوت أذان المغرب بفارغ الصبر، وعقولهم تحسب كل دقيقة وثانية لسماعه من أجل الإفطار، من دون أن يهتموا بمواعيد الصلوات الباقية بالضرورة، مقابل فئة تشتاق إلى جميع أوقات الصلاة وتلتزم بها، خاصة وقت صلاة التراويح، فتراهم يتلهفون للصلاة جماعة خلف الإمام.
وكم هناك فرق بين فئة تشتاق إلى أسرع الأئمة في صلاة التراويح، فتتنافس فيمن يضرب الرقم القياسي في إنهاء الصلاة، ولا يهم لو كان المسجد في منطقة غير منطقته؛ لأنه على عجلة من أمره يريد التسوق والسهر مع الأصدقاء، بينما فئة تشتاق إلى صلاة التراويح؛ كي تصليها بكل تأنٍ وخشوع خلف الإمام، من أجل التقرّب إلى الله. فكيف كان شوق السلف الصالح لرمضان قولاً وفعلاً؟ وما هي سُبُل اللحاق بالمشتاقين لرمضان الفرحين به؟ ولماذا يُحرم البعض من رمضان ومن الشوق له؟
سُبُل اللحاق بالمشتاقين لرمضان
يقول الداعية الإسلامي "مصطفى القيشاوي" في حديثٍ لـ"بصائر": "إنّ المُسلم يشتاق لشهر رمضان بقدر معرفته لقيمة هذا الشهر، فكلما ازدادت معرفته ازداد شوقه، فمنهم من يشتاق له قبل حلوله بشهر أو شهرين، ومنهم من يشتاق له قبل ستة شهور، وهناك من يشتاق لهذا الشهر على مدار العام، بل على مدار اللحظة، فتراه يشتاق لرمضان حتى في رمضان من شدة حبه وتعلُّقه ومعرفته لكنوز وخيرات وبركات رمضان التي تتنزل على المسلم الصائم القائم في هذا الشهر".
وتابع: "وحتى يلحق المُسلم بركب المُشتاقين، عليه –أولاً- أن يتخلص من العوالق التي تحول بين قلبه وبين تذوق هذه المعاني العظيمة، بأن يبدأ بحملة تنظيف وترميم داخلي لجسمه، كما يقوم بتنظيف وتهيئة بيته لاستقبال الضيوف والزائرين؛ لأن شهر رمضان أكرم زائر يُمكن أن يحلّ بديارنا".
وقال "القيشاوي": "إنّ اللحاق بهذا الركب المُبارك ينبغي أن يستقل فيه الإنسان وسيلة مواصلات سريعة حتى يُدرك الركب، وليس أسرع من سيارة التوبة والإنابة والرجوع إلى الله، فكلما رجع إلى الله تقدم باتجاه رمضان؛ لأنّ كل رجوع مذموم إلاّ إنْ كان إلى الله، فإنّه حينها يكون تقدماً نحو الطاعة والخير والبركة ".
شوق السلف الصالح إلى رمضان قولاً وفِعلاً
وأشار "القيشاوي" إلى: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعلّم الصحابة الكرام أن يترقبوا شهر رمضان، ويدعون الله أن يبلغهم هذا الشهر فيقولون: (اللهم بلّغنا رمضان)، وكان يدعوهم لتحري الهِلال، وكل هذا شوقاً ومحبةً لهذا الشهر".
وأردف قائلاً: "بل إنّه كان صلى الله عليه وسلم في أول لحظات دخول الشهر الكريم يقف بالناس يُهنئهم ويقول لهم: (أتاكم رمضان، شهر مبارك، فَرَضَ الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم) (رواه النسائي)".
وتابع: "ولذلك فإنّ الصحابة الكرام والسلف الصالح لمّا عرفوا قدر هذا الشهر صاروا ينتظرونه من العام إلى العام، وكأنّ قلوبهم قد تعلقت به، كيف لا؟ وفيه فرصتهم العظيمة للارتقاء إلى درجات العُلا والسمو والرفعة في طاعتهم لله عز وجل".
وذكر "القيشاوي": "أنّ السلف الصالح اشتاقوا لرمضان قولاً فكانوا يقولون: (اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي لرمضان، وسلم رمضان لي، وتسلّمه مني مُتَقَبَّلاً).
أما بالفِعل فقد كانوا يُترجمون أشواقهم لأفعال تُثبت حُبّهم له، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستعد لرمضان بإنارة المساجد بالقناديل، فكان أول من أدخل إنارة المساجد، وكان أول من جمع الناس على صلاة التراويح في رمضان، فأنارها بالأنوار وبتلاوة القرآن، حتى دعا له سيدنا علي رضي الله عنه عندما خرج في أول ليلة من رمضان والقناديل تُزهِر، وكتاب الله يُتلى في المساجد، فقال: "نور الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نورت مساجد الله بالقرآن".
لماذا يُحرم البعض من رمضان؟ ومن هم المحرومون؟
وقال "القيشاوي": "إنّ النبي صلى الله عليه وسلم صعد ذات يوم المنبر فقال: (آمِينَ، آمِينَ، آمِين) قيل: يا رسول الله إنّك حين صعدت المنبر قُلت: آمِينَ آمِينَ آمِينَ قال: (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمين، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَبَرَّهُمَا فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمين، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمين، فَقُلْتُ: آمِينَ) (رواه ابن حبان وغيره)".
وأوضح: "أنّ المحرومين في رمضان هُم الذين لا يصومون إيماناً واحتساباً، بل يصومون رياءً أو عادة، والذين يتركون قيام لياليه كسلاً وتثاقلاً عن الطاعات، وقد ضيَّعوا على أنفسهم نصيباً من مغفرة ذنوبهم في رمضان، كيف لا وهم يضيعون أفضل الأوقات؟ وإذا لمْ يغتنم المُسلم وقته في رمضان فمتى؟ وهو موسم الخيرات! وفيه تُضاعف الدرجات".
واسترسل: "وكذلك الذين يُداومون على مساوئ الأخلاق، ولا يردعهم صيامهم عن ارتكاب المُحرّمات، والذين يُضيّعون أوقات هذا الشهر الشريف في النوم والغفلة، ومُتابعة القنوات والاستماع إلى الأغاني الماجنة، ومُشاهدة ما يُغضب رب الأرض والسماوات، والذين يُفسِدون صيامهم عامدين بالمفسدات الحسية كالجِماع، والأكل والشرب، والاستمناء، أو المفسدات المعنوية: كالكذب، والغيبة، والنميمة، والحسد، والسخرية، والاستهزاء، والفحش، والتبرج وغير ذلك، وسبب خسارة هؤلاء القوم هو أنّهم لم يوفَّقوا لاغتنام أوقاتهم، والمُسارعة إلى مرضات الله، وكل ذلك من الحِرمان والعياذ بالله".
القيشاوي: المحرومون الذين يُداومون على مساوئ الأخلاق، ولا يردعهم صيامهم عن ارتكاب المُحرّمات، ويُضيّعون أوقات هذا الشهر في النوم والغفلة، ومُتابعة القنوات ويُفسِدون صيامهم عامدين بالمفسدات الحسية أو المعنوية، لم يوفقوا لاغتنام أوقاتهم
رسالة أخيرة
وختم القيشاوي حديثه قائلاً: "إنّنا مُقبلون على أيامٍ عظيمة ومباركة، وأعلمُ أنّ كثيراً من البيوت لن يختلف حالها في رمضان عن قبله، فقد وصل بها الحال لأن تكون أشبه بالصائمة على مدار العام؛ بسبب الحصار الظالم والظروف القاسية التي نعايشها، فما أحوجنا في هذه الأيام لمزيدٍ من التكافل والتلاحم، وتفقد بعضنا البعض، ولملمة جراحنا وتضميدها، حتى لا يرى عدونا منا انكساراً أو هواناً ، وأن نعلم أننا عما قريب خارجون من هذا الامتحان الصعب بنجاح، وليكن شهر رمضان المبارك حافزاً ودافعاً جديداً لنا لأن نمضي قُدماً في مسيرة عطائنا وجهادنا، دون تراجع أو انكسار".
توجيهات للّحاق بركب المُشتاقين
ومن جهته، قال الدكتور "زياد مقداد" -أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الإسلامية بغزة- لـ"بصائر": "إن كنت مشتاقاً إلى شهر رمضان بحق، وتريد أن تكون كأولئك المشتاقين له الفرحين به والذين اغتبطوا بقدومه، فعليك أن تُعبّر عن اشتياقك بالأفعال لا بالأقوال، بالالتزام لا بالكلام".
وذكر "مقداد" بعض التوجيهات لمن يُريد اللحاق بالمُشتاقين إلى شهر رمضان؛ لكي يكون شوقهم حقيقياً، وتشملهم فيه الرحمات وتغفر لهم الزلات، وتتمثل تلك التوجيهات بـ:
أولاً- يجب أن ترفع أكف الضراعة والدعاء بقلبٍ خاشع ومخلص بأن يبلغك رمضان وأن يعينك فيه على الصيام والقيام، بالإضافة إلى تقصير الأمل بأن يُشعر المرءُ نفسَه بأن هذا آخر رمضان له في حياته، ومَن يدري!
ثانياً- أن تعقد العزم على أن تستثمر أيام هذا الشهر مع الله صياماً وقياماً، وإنفاقاً وصلةً للأرحام وتخلقاً بأخلاق المسلمين، وأن تُقبِل على قراءة القرآن الذي نزل في هذا الشهر المبارك.
ثالثاً- أن تصنع لنفسك شعاراً يشدّ من همتك ويقوي عزيمتك وليكن مثلاً: (لن يسبقني إلى الله أحد)، أو (لن أعود للمعصية بعد ذلك أبداً)، أو (وعجلت إليك ربي لترضى) ...الخ.
رابعاً- تذكر كيف كنت تستمتع بلذة الطاعة في رمضان السابق؛ لتكون دافعة لك لمزيدٍ من الطاعات .
خامساً- اعزم على رفع رصيدك الإيماني في هذا الشهر، فالإيمان يزيد وينقص، وهذا الشهر الفرصة فيه مهيأة وميسرة للطاعة والعبادة ومن ثم لزيادة الإيمان ورضا الرحمن.
شوق يدعو للعجب!
ونوّه "مقداد" إلى: "أنّ شوق السلف الصالح لرمضان كان يدعو للعجب من شدة شوقهم وحبهم وترقبهم له في كل عام –لافتاً- إلى أنّه حريٌ بنا كمسلمين في هذا العصر أن نتعرف على صورة هذا الشوق وكيفيته لنتأسّى بهم ونقتدي بأعمالهم".
وأشار إلى: "أنّ الصحابة -رضوان الله عليهم- وسلفنا الصالح كانوا يدعون الله أن يبلغهم رمضان قبل ستة أشهر من قدومه، ثم يدعونه خمسة أشهر بعد رمضان بأن يتقبله منهم، مُستدلاً بما رُوِيَ عنهم أنهم كانوا يدعون الله بقولهم: "اللهم سلّمنا إلى رمضان، وسلّم رمضان لنا، وتسلّمه منا متقبلاً"، حتى إذا أقبل رمضان أظهروا السرور الشديد والاستبشار بقدومه مُستشعرين بعظمة هذا الشهر".
وتابع: "ولا أدل على ذلك من قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ)(رواه النسائي)".
وبيّن أنه من شدة شوق الصحابة والسلف الصالح لرمضان أنّهم كانوا يُكثرون من الصيام قبل قدومه في شعبان حباً في هذا الشهر، وشوقاً إليه، وتأسياً برسول الله الذي كان لا يصوم في شهر -غير رمضان- أكثر مما كان يصوم في شعبان".
مقداد: من شدة شوق الصحابة والسلف الصالح لرمضان أنّهم كانوا يُكثرون من الصيام قبل قدومه في شعبان حباً في هذا الشهر وشوقاً إليه وتأسياً برسول الله الذي كان لا يصوم في شهر غير رمضان أكثر مما كان يصوم في شعبان
واسترسل: "كما كان صحابة رسول الله وسلفنا الصالح يبدؤون -حتى قبل رمضان- بتلاوة القرآن شوقاً له وتدرباً على تلاوته في رمضان -لافتاً إلى- أنّ شهر رمضان كان بالنسبة لسلفنا الصالح كمدرسة يتدربون فيها ويُعوّدون أنفسهم على فعل الطاعات والخيرات، خاصة قيام الليل الذي هو شرف المؤمن ويزيد من نور قلبه ووجهه".
وأكّد "مقداد" على: "أنّ صحابة رسول الله وسلفنا الصالح كانوا يعتبرون هذا الشهر كحَلَبَة للسِباق في الخيرات والطاعات وفي كل المجالات من الصيام والقيام والإنفاق وصلة الأرحام، وكل ما يُرضي الله عز وجل، فهلاّ اقتدينا بهم؟".
ما الذي يحول دون شوق البعض لرمضان؟
وحول الأسباب التي تحول دون شوق بعض المسلمين -وهم أقلّة- لبلوغ شهر رمضان وعدم الاستعداد للقائه، أوضح "مقداد": "أن ذلك يعود لضعف الإيمان، والانشغال بالدنيا ومتاعها، واتّباع الأهواء والمعاصي التي تجعل الشيطان مُسيطراً على نفسه، ويحول دون اشتياقه للطاعة وفعله لها".
وأضاف: "أنّه ربما يعود السبب الآخر إلى قلة معرفة هذا الشخص بفضل رمضان ومكانته وعظمته عند الله، حتى إذا عرف ذلك عاد ومعه الشوق والحنين لطاعة الله ومواسم الخير، مُشدداً على أنّه يجدر بالعلماء والفقهاء قبل رمضان أن يُعرّفوا الناس بفضل رمضان وعظمته عند الله لما يترتب على ذلك من تشوق الناس إليه وانتظارهم له".
ووجّه مقداد رسالة إلى الشباب الذين ضاقت بهم الدنيا في هذه الأيام، وقد اشتد الحصار على قطاع غزة وانقطعت الرواتب، وشحت فرص العمل، وتنكر لهم الإخوة العرب والعجم، قائلاً: "إننا على أعتاب قدوم شهر رمضان المبارك، ولذلك لا بدّ أن تزداد ثقتنا بالله بأنه لن يترك هذا الشعب المرابط المحاصر، وإنّ قدوم رمضان دائماً يحمل معه البشائر والنصر والفرج، فأبشروا وأمّلوا وثقوا بربكم وتوكلوا عليه ".