في ختام تلك الجولة الإسلامية في مدن ودول المسلمين ومظاهر الاحتفال الرمضاني فيها، لا يسعني إلا أن أختم تلك السلسلة بموضوع الأقليات المسلمة في أوروبا، ليس شكوى عمّا يعانونه في مهجرهم، وإنما لفتاً للانتباه إلى أن هناك على الجانب الآخر من الكرة الأرضية إخوان لنا يحملون رسالة الإسلام كما حملها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قلب الصحراء، واستطاعوا رغم صعوبة الظروف المحيطة بهم أن ينتزعوا للإسلام مكانة تليق به، توشك أن تجعله الدين الأول في أوروبا.
ولذلك ولأنهم يستحقون فسوف تكون تلك المساحة المخصصة لهم تليق بجهودهم وغربتهم وتحملهم المشاق في سبيل نشر دينهم.
وشهر رمضان المبارك الذي يمثّل للمسلمين نوعاً من العبادة المنتظرة طوال العام نظراً لمكانة ذلك الشهر الكريم بين بقية الشهور؛ لتميزه بنزول القرآن الكريم، ويستمتع المسلمون العرب وغيرهم ممن يمثلون أغلبية في بلادهم بطقوسهم الخاصة احتفاءً به.
هل يختلف رمضان في المجتمعات الغربية التي يعيش فيها ملايين المسلمين أقليات وسط أجناس يختلفون عنهم في الدين والمعتقد؟
بالطبع يوجد هناك كثير من الاختلافات يعانيها إخواننا المسلمون في دول أوروبا، حيث قد تطول فترة الصيام اليومية إلى عشرين ساعة مثل مدينة بروكسل عاصمة بلجيكا، حيث يؤذّن للفجر عند الساعة الثالثة، وهو وقت الإمساك، بينما يؤذّن للمغرب عند الساعة العاشرة تقريباً.
ومما يشغل بال المسلمين الأوروبيين في شهر رمضان ما يمكن أن نطلق عليه: "صراع الهوية" خصوصاً بين فئات الشباب، فالشباب المسلم في تلك الديار تائه بين الحفاظ على هويته وأصالته والتمسك بأحكام دينهم، وبين مغريات الحياة الغربية ومفاتنها ومباهجها.
وأما ما يتعلق بمظاهر الاحتفاء برمضان في أوروبا، وما يشتهر بين المسلمين هناك من عادات وتقاليد رمضانية؛ فإن هذه المظاهر قد تتشابه إلى حد كبير من دولة إلى أخرى، وقد تختلف من حيث الضعف والقوة.
ففي بلجيكا التي تضم واحدة من أنشط الأقليات المسلمة على مستوى أوروبا كلها، وأكثرها فعاليّة ومشاركة في الحياة العامة، حيث تم الاعتراف الرسمي بالإسلام عام (1974م)، تعتبر أجواء شهر رمضان، وبخاصة في العاصمة بروكسل، هي الأقرب إلى الأجواء الرمضانية السائدة في مدن العالم العربي والإسلامي، وذلك مقارنة بأية عاصمة أوروبية أخرى.
وفي دولة مثل فنلندا التي اعترفت بالإسلام بوصفه ديناً رسمياً منذ عام (1925م)، نجد أن شهر رمضان يعد فرصة يستغلها المسلمون لاستعادة روح رمضان التي يفتقدها العديد منهم بعدما فارق وطنه الأصلي، وقد تنبّهت الحكومة الفنلندية منذ سنوات قريبة إلى أهمية التعرف على عادات وتقاليد الجالية المسلمة، فقامت وزارة الخارجية بإقامة أول حفل إفطار دعت إليه رموز الجالية الإسلامية، وقام التلفزيون الفنلندي بإذاعة وقائع هذا الحفل، وأصبحت مأدبة الإفطار هذه عادة سنوية، ولكنها اتخذت بعداً جديداً، حيث بدأت الوزارات المختلفة تتسابق في إقامة مثل هذه المأدبة الرمضانية؛ للحفاوة بالمسلمين في هذا الشهر.
وفي النمسا التي تضم أقليّة مسلمة نشطة، يصل عددها إلى نصف مليون نسمة، يمثلون تقريباً (5%) من تعداد السكان، نجد أن المسلمين هناك يتمتعون باعتراف فريد من نوعه في أوروبا، وهو الاعتراف بالإسلام بقانون نمساوي صدر لهذا الشأن منذ ما يقرب من مئة عام، وعن طريق هذا الاعتراف، استطاع المسلمون تأسيس الهيئة الدينية الإسلامية التي تمثلهم أمام الهيئات الرسمية والمجتمع النمساوي، وينضوي المسلمون جميعاً تحت لواء هذه الهيئة التي تختص بالنظر في شؤون المسلمين.
وقد جرت العادة أن يدعو الرئيس النمساوي ورئيس البرلمان وعمدة فيينا المسلمين لحضور حفل إفطار جماعي يقام في رمضان؛ برهاناً على احترام وتقدير المسؤولين للجالية الإسلامية.
وفي السويد ينتهز المسلمون شهر رمضان؛ للحفاظ على تقاليدهم الشرقية وتعزيز هويتهم الإسلامية، ابتداء من المنزل، ومروراً بالمسجد والمدرسة، وانتهاء بالشارع السويدي.
وفي فرنسا التي يزيد عدد المسلمين فيها عن (5 مليون) مسلم يتحمل المسلمون مشقة صيام يدوم (18) ساعة يومياً.
وفي بريطانيا نجد أن التنوع الثقافي والديني الذي يُعتبر سمة أساسية من سمات المجتمع البريطاني، وهو تنوع تحرص الحكومة البريطانية على الحفاظ عليه وحمايته ودعمه، ولذلك تبدو مظاهر الاحتفاء بشهر رمضان في المساجد والمراكز الإسلامية ووسائل الإعلام والجامعات البريطانية ومراكز الرعاية الصحية، حيث بثت القناة الرابعة البريطانية أذان الفجر طوال رمضان.
وفي ألمانيا التي تضم قرابة خمسة ملايين مسلم، نجد أن الحياة في رمضان تظل عادية تماماً بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون هناك، بين عمّال وضيوف ودبلوماسيين وموظفين وطلاب ولاجئين ومرضى يتلقون العلاج، فلا شيء يتغير، وهي من أقل البلاد الأوروبية حفاوة برمضان، ويسعى المسلمون إلى تعويض هذه الأجواء الجماعية التي تميز الدول الإسلامية في شهر رمضان من خلال تحضير إفطارات جماعية للأسرة والأصدقاء.