جاء العام السبعون على احتلال فلسطين، يحمل إجرامًا جديدًا تجاه أبناء فلسطين في غزة، وتآمراً غربياً آخر على قدسها المبارك، وحقداً صهيونياً لا تهدأ مطامعه، إلا أن القضية لم تفقد يومًا عدالتها، التي أجبرت الصادقين حول العالم على الاصطفاف في سبيل تحريرها، مع تعدّد رؤاهم ومرجعياتهم الذاتية، بل وتضادها في كثير من الأحيان.
ورغم محاولة تجريد القضية من بعدها الديني والعقدي، إلا أنها دائمًا ما ترتكز إليه في مسارها، لاسيما وأن عليه بنى الاحتلال الصهيوني مطامعه في الأرض، كما كان دائمًا سببًا أساسياً لانتفاض المسلمين والمسيحين حول العالم؛ لتحرير القدس بكل ما امتلكوا من وسائل.
-بين دفتي الكتاب:
ولعلّ خير دليل على ما تمتاز به القضية من ركيزة روحانية دينية إسلامية ومسيحية ويهودية، هو هذا الكتاب الذي بين أيدينا؛ إذ خطته أنامل هندية يمدّها قلب مفعم بالغيرة على الإسلام ومقدساته، لرجل سخّر حبر فكره لنصرة قضايا المسلمين في بقاع الأرض، وهو الشيخ "نور عالم الأميني الندوي"، وكنيته "أبو أسامة نور" -أستاذ الأدب في اللغة العربية بكلية دار العلوم ديوبند، في الهند، ورئيس تحرير مجلة "الداعي"، منذ (7 محرم 1403هـ/ 25 أكتوبر 1983م) وحتى يومنا الحالي-.
نجح الكاتب في تقديم سفر متكامل عن أرض فلسطين المباركة، بإيضاح تفاصيلها الجغرافية وحدودها الحقيقية، وثرواتها الثمينة، بالإضافة إلى سرد تاريخ البلد منذ قدوم اليهود إليها، وغرس مطامعهم فيها بمعاونة حلفائهم من الغرب، ومواجهة الشعب الفلسطيني ذاك الظلم بالحفاظ على شعلة المقاومة ببسالة الشباب، واصطفاف القادة، إلى أن أصابته رصاصة الانقسام في قلب وطنيته، عام (2007م).
ويقدّم الأميني كتابه في أربعة أقسام رئيسة، تسبقها مقدمة ذاخرة بفضائل أرض فلسطين ومكانتها الدينية، عبر سرد الأحاديث النبوية المؤكدة على نصرة أهلها ورباطهم إلى يوم القيامة، وإيضاح ما شهدته المدينة من صراعات منذ القرون الوسطى، وما تعرّضت له من حروب ارتكزت دائمًا على بعد عقدي.
ويوضّح أن اهتمامه بفلسطين يرجع إلى إيمانه بأنها القضية العربية الإسلامية الأولى، لذا بدأ يكتب عنها منذ تعلم التدوين بالعربية؛ "ليتأكّد كل مسلم غيور، لديه قلب متألم، أن حلم تحرير فلسطين، واستعادة المسجد الأقصى، واسترداد القدس، وعودة الفلسطينيين المشردين إلى وطنهم، لن يتحقق إلاّ بالجهاد المقدس والمقاومة المخلصة، والنضال الداعي إلى المغامرة، وأن كل طريق غير هذا الطريق، إنما يؤدي إلى هوة سحيقة لا يُرجى التخلُّص منها بعد السقوط فيها".
أولًا:
يعنون الكاتب للقسم الأول بـ: ((أرض فلسطين: تاريخ موجز، ومكانتها في الإسلام، ووصفها تحت الاحتلال، ولمحة عن أفاعيل الصهاينة مع الفلسطينيين)، إذ يبين فيه تفاصيلَ دقيقةً عن مساحة الأرض وحدودها الجغرافية، وعدد سكانها، وحضارتهم، بالإضافة إلى تاريخ الأرض ونزلائها من الشعوب من قبل ميلاد المسيح عليه السلام، بالإضافة إلى تعديد الحروب التي شُنت فوق ترابها.
كما يبين أحقية المسلمين في تلك الأرض وارتباطهم بالمسجد الأقصى، مبرهنًا على ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، بالإضافة إلى توضيح علاقة المسيحين واليهود بالقدس، إلا أنه في الوقت ذاته فنّد ادعاءات الصهاينة بوجود هيكلهم المزعوم؛ لإقامة دولتهم الاحتلالية، مشيرًا إلى الدور الغربي في خلق مأساة الشعب الفلسطيني؛ للتخلص من انتشار اليهود في الدول الغربية بعد اضطهاد روسيا لهم.
وتضمن هذا القسم شرحًا تفصيليًا لأهم قرارات التقسيم لفلسطين منذ قدوم الصهاينة إليها، ومسار المفاوضات بين العرب والغرب على ترابها، وموقف اللاجئين الفلسطينيين.
كما تطرّق إلى دور المقاومة الإسلامية في النضال ضد الاحتلال ورفض التسليم بالأمر الواقع، وصولًا إلى توضيح دور الاحتلال في غرس الانقسام بين الشعب الفلسطيني، برفض فوز "حماس" بانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني (2006م)، وإشعال الفتنة السياسية بين الفصائل المختلفة، ودعم ذلك ببناء الجدر العازلة التي تعزز الانقسام جغرافيًا بعد أن تمّ سياسيًا.
ثانيًا:
وجاء القسم الثاني بعنوان: (مدينة القدس والمسجد الأقصى: ملامح تاريخية وجرائم صهيونية)، وبدأ بإيضاح التفاصيل الجغرافية الخاصة بالمدينة المقدسة، وأوضاعها وما يحيطها من جبال وأشجار، بالإضافة إلى إيضاح البعد الديني اليهودي والمسيحي فيها، ثم التطرق إلى تاريخها بدءً من اليبوسيين، ثم البابليين، فاليونانيين، والرومان، والفرس، وصولًا إلى الفتح الإسلامي وما تبعه من تنظيم أوضاع المسيحين واليهود في المدينة بعد أن تسلّم الخليفة عمر بن الخطاب مفاتيحها.
وتطرّق الكاتب لمراحل تهويد القدس عبر التاريخ تفصيليًا، موضحًا حدود المسجد الأقصى، وخطط الصهاينة في إزالته من على وجه الأرض؛ لبناء هيكلهم المزعوم، موردًا قوائم بمساجد المدينة، وأوضاعها الحالية، ومن دُفِن في القدس من الصحابة، و أسماء كبار الشخصيات بالمدينة، والمقامات الموجودة بها، وأشهر مقابرها وأسواقها.
ثالثًا:
(ملف كامل للمذابح الصهيونية منذ عام 1947م، وحتى عام 1996م)، إلا أنها لم تشمل المجزرة التي ارتكبها الصهاينة في حق أبناء غزة في (27 ديسمبر من عام 2008م)، نظرًا لتدوين الكتاب قبل الواقعة.
رابعًا:
وتضمن القسم الرابع والأخير من الكتاب (76) مقالة منشورة للمؤلف عن القضية الفلسطينية، عكست رؤية إسلامية خالصة في العرض، إذ يقول في مقال معنون بـ" أما آن لهذا الليل من صباح!"، "والعدوّ يرى كل ما يصنعه واجبًا دينيًّا مقدّسًا"، "كل من شارك فيه بحبة خردل فله الجنة"...، بينما نحن نرى القضيةَ بمنظور سياسي بحت، ولكل بلد منظاره السياسي الخاصّ... فلن تتّحد النظرة".
وفي الختام، نحن أمام نموذج إسلامي لم يصغ الحجج والمعاذير ليتنصل من واجبه الديني والإنساني، ومسؤوليته تجاه أمته، رغم اختلاف اللسان ونأي المسافة، وتباعد الثقافات، فنظم كلماته مدافعًا عن قضايا أمته، بما استطاع لذلك سبيلًا، متحملًا آلام الشماتة من تفرّق كلمة المسلمين، التي قذفه بها أصحاب الديانات الأخرى من بني جلدته.
وبعد وقوفنا مع هذا السفر الأدبي والديني والتاريخي القيم، وتلك الشخصية المخلصة لدينها قولًا وعملًا، حقّ لنا أن تساءل ما الذي قدّمه أحدنا تجاه مآسي الأمة غير الندب عليها واحتراف العويل، بل والتربح منه أحيانًا؟!
مع المؤلف:
ولد الندوي في قرية "هربوربيشي"، مديرية "مظفربور" بولاية بيهار في الهند، في ديسمبر عام (1952م)، وتخرّج في المدرسة الأمينية بدلهي.
وتميّز بولعه الشديد باللغة العربية، وحرصه على تعليمها لأبناء بلاده -باعتبارها الوسيلة الأساسية للتفقه في الدين الإسلامي ومصادره الشرعية- بالإضافة لترجمته (35) كتابًا، وعدد من المحاضرات لكبار المفكرين والكُتّاب، من اللغة الأردية إلى العربية.
وكرَّس الأميني قلمه لمعالجة قضايا الأمة، فلمع اسمه بالهند في مجلة "البعث الإسلامي"، وجريدة "الرائد"، كما برق في المملكة العربية السعودية عبر مجلة "الدعوة" ، ومجلة "الفيصل" و"الحرس الوطني".
ويسجل التراث العلمي له عدداً من الكتب بينها:
"الصحابة ومكانتهم في الإسلام"، و"مجتمعاتنا المعاصرة والطريق إلى الإسلام"، و"المسلمون في الهند"، و"الدعوة الإسلامية بين الأمس واليوم"، و"مفتاح العربية في جزأين"، و"العالم الهندي الفريد الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله"، و"فلسطين في انتظار صلاح دين"، وترجمة وتحقيق كتاب "مأساة شاب هندوسي اعتنق الإسلام".
معلومات الكتاب
اسم الكتاب: فلسطين في انتظار صلاح دين
المؤلف: نور عالم خليل الأميني
الناشر: مؤسسة العلم والأدب
البلد: ديوبند، يوبي، الهند
سنة النشر:2008