كم من مريد للخير لا يصيبه!

الرئيسية » بصائر تربوية » كم من مريد للخير لا يصيبه!
muslim117

ورد عن سيدنا عبد الله بن مسعود أثر طويل في سنن الدارمي والسلسلة الصحيحة للألباني، في باب التحذير من البدع وأهلها، واتباع الظن بغير علم ولو بنية حسنة، واستحداث قُرُبات لم يثبت لها أصل، وكثير من الدروس الأخرى تستفاد من نص الأثر وشرحه المطوّل.

المقالة التالية تركز على عبارة وردت في ذلك الأثر: “وكم من مُريدٍ للخيرِ لن يُصيبَه”، وتعرض لمفتاحين يرجى لمن تنبه لهما أن يكون أقرب للخير المراد وأرشد في طلبه، والتي تكون الغفلة عنها سبب الوقوع في عكس ذلك:

1. صدق الحاجة لا مجرد الرغبة

لأنه ليس كل مريد للخير صادق في إرادته!  

فكم ممن يقضي حياته في شكوك وتساؤلات وحيرة، فإذا أعطي كتابا أو مادة فيها جواب، تجده أكسل الناس في الإقبال عليها، بل منهم من يهتم بحساب عدد الصفحات وطول المادة ويستثقلها! وكم ممن يشتكي ظروف وعقبات، فإذا كُشفت عنه وخلّي بينه وبين نفسه اتضح أن عقبته الأولى والأخيرة لم تكن سوى نفسه وما حولها ستار لعجز مفتعل ليس إلا. وكم ممن يتمنى أن يفهم كلام الله على وجهه أو أن يتسع وقته لمطالعة كلام نبيه، أو حتى تعلم لغة أو اكتساب مهارة! وتمر السنوات وهو بعد جامد عند مرحلة التمني، متحجج بموانع التنفيذ، ولو صدق العزم لهدي السبيل، ولو سلك خطوة لكان قطع على الأقل مائة، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة} [التوبة:46].

مفتاح التنفيذ العزم، ومفتاح العزم الإرادة، ومفتاح الإرادة صدق استشعار حاجتك أنت للأمر، فالجائع لا يحتاج من يدفعه دفعا للأكل. كذلك الإرادة لا تستجلب من الخارج ولن تهبط عليك من السماء، ولن تتغير الظروف إكراما لخاطرك أو تتسع الأوقات لتناسب مزاجك، لكنك إذا أردت حقا لأوجدت وقتك وملكت زمام أمرك، ومن يعمل يره!

الإرادة لا تستجلب من الخارج ولن تهبط عليك من السماء، ولن تتغير الظروف إكراما لخاطرك أو تتسع الأوقات لتناسب مزاجك، لكنك إذا أردت حقا لأوجدت وقتك وملكت زمام أمرك، ومن يعمل يره

2. حكمة الاتباع قبل الابتداع

وهذا متعلق بمن يسارع لاختراع طرق وإبداع مناهج في أي مجال، قبل أن يتثبت أولا من الموجود ويطلع على ما سبق من جهود، فيكون سعيه بالتالي مسدداً، ومنهجيته بنائية، وبناؤه إضافة حقيقية لا افتعالا وهميا. وخير مثال على ذلك يتجلى في الخلاف الذائع بين ثنائيتي حفظ القرآن وتدبره، كأن بين الحرص على إحكام الصياغة بحفظ الألفاظ مع تحصيل روح المعنى بتدبره تعارض أو تضارب! ثم يليه نموذج الطامحين لتعلم اللغات الأجنبية، وهذا المطمح صار هو الآخر من المعالي التي يكثر طالبوها ويقل حائزوها كأنها لبن العصفور وما إليها من سبيل وصول! تجد صاحب تلك الأمنية يسارع بالتسجيل في كورس أو تتبع المدرسين الأعلى كلفة أو حشد مكتبته بالكتب وجهازه بالمواد اللغوية... إلخ. وحقيقة الأمر أن هذه كلها صور ممارسات شائعة لمن يريد التعلم عامة أو تعلم اللغات خاصة، بل هي كذلك ممارسات في غالبها خاطئة المنشأ والمبدأ والمنتهى، لذلك يندر أن تثمر ثمرا نافعا مهما بذل المرء وسعه في الأخذ بها، فتأمل!

وبيت القصيد يكون في طلب الأسباب المتعلقة بالمقصد، أي البدء بفهم ذلك الشعار ومقتضياته ومنهجيته هو، لا منهجيتنا المتخيلة من جهتنا نحن.

فإذا جئنا للقرآن – مثلا - نجد أن النموذج الذي وصل لدرجة أن يقرأ القرآن كأنه عليه أنزل ليس ممتنعاً، بل عندنا فيه سابقة بالفعل يمكن القياس عليهم واتباع نهجهم اتباعاً حقيقياً صادقاً، لا هو متحجر كالصنف الأول ولا تائه كالصنف الثاني.

وذلك النموذج لا يقتصر فقط على جيل الصحابة الذي بالفعل كان القرآن ينزل عليهم ليتحركوا به، بل على أجيال تالية من التابعين وتابعي التابعين الذين –من حيث المبدأ– كان نزول القرآن بالنسبة لهم سابقا للحركة به كما الحال معنا، وإن اختلفت كثير من ظروفهم عن ظروفنا، لغلبة المادية وعلائق الدنيا على قلوبنا في المقام الأول، ثم ضعف طلبنا للعلم الراسخ بالدين والاكتفاء بتوارث الفهم السطحي وصور التدين. لكن كل ذلك لا ينفي المنهجية الأصيلة للغرس التربوي لأي عقيدة في النفس، لأن النفس الإنسانية ومراحل ترقيها في المدارك هي واحدة منذ بدء الخليقة.

اختلاف ظروفنا لا ينفي المنهجية الأصيلة للغرس التربوي لأي عقيدة في النفس، لأن النفس الإنسانية ومراحل ترقيها في المدارك هي واحدة منذ بدء الخليقة

فالطفل في سنوات عمره الأولى حتى الخامسة تقريباً تكوينه الإدراكي يعتمد في المقام الأول على التشرب والتلقي والمحاكاة. فبدلا من محاولة عناد هذه الطبيعة والإصرار على إفهامه ما لن يعقل حقيقة، يتم التركيز في هذه المرحلة على تلقيه للفظ القرآن ونصه، بالحفظ المنضبط تجويداً وترتيلاً، وما يحفظه في هذه السن يرسخ رسوخ الجبال بالضرورة، ويمكن البناء السوي عليه من بعد. فإذا اتسعت مداركه بما يكفي، صارت التربة ممهدة البذور، وهنا يبدأ التفهيم الأولي لغريب الألفاظ ومعاني المفردات، مع الربط المبسط بشؤون الحياة المختلفة. ثم حين يشتد عود النبتة تكون فترة الإيراق بتعميق فهمه للكلام ومطالعة تفسير أولي والإكثار من الربط بالحياة والتحاكم إليه في مختلف الشؤون. وهكذا كلما نضج في المدارك تعمق في الفهم، بكل سلاسة ومنهجية.

وإذا جئنا لتعلم اللغات فالأسباب الموصلة لتعلم لغة ما، تتعلق أول ما تتعلق بالعلم، ثم بطبيعة اللغة. فالذي لا يملك مفاتح العلم الأولية من جدية ذاتية ومسؤولية فردية وحرص على النظام والمثابرة والصبر على النتائج والمنهجية في الطلب...، لا تنفعه أي أسباب "خارجية" في أي نوع من العلوم كانت، لأن العلم لا يُسقى بملعقة وإنما يطلب بشق النفس .
وأما ما يتعلق بطبيعة اللغة، فأول الأسباب الموصلة للتمكن من اللغة هو الممارسة المتوازية مع البناء العلمي وليست المنفصمة عنه. فكم من دورات تقوم على الممارسة بمعنى ترك الطالب يَهطِل بالكلام على علته، زاعمين أنه مع الوقت "يكتسب" الصواب! ثم لا بد أن يحيط الطالب نفسه بممارسات لغوية صائبة يحاكيها هو في البداية، قبل أن ينطلق في الممارسة بمفرده، فيسمع كثيرا ويقلد ما يسمع، وينتبه للتراكيب وهو يقرأ ويمضي على نسقها في إنشائه، وهكذا.

ختاما

إذا أردت خيرا، فافهم أولا ماهية الخير الذي تطلب، لتتضح لك أسبابه الموصلة إليه . وإذا اتضحت أسبابه فخذ بها وثابر عليها، ولا تلتفت.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …