مرّ شهر رمضان كالبرق، وهكذا الأمور والأعمال والأيام الطيبة، تسير بسرعة، فلا نشرع في استقبالها حتى نجد أنفسنا وصلنا منتصفها، فنجتهد على قدر طاعاتنا، ولا ندري أقُبِلت الطاعات أم ردّت على أعقابنا!
كم بيننا وبين الصحابة مسافات من العمل والفهم! كانوا يستقبلونه بستة شهور، ويودّعونه بالمثل، فكانت السنة كلها رمضان بالنسبة لهم، من طاعات وقيام، وصلة أرحام، وبرّ وزكاة وصداقات، ومجالس علم، وبيعة مع الله، تُجدَّدُ على مدار الساعة، وحسن اتباع لأوامر ونواهي النبي تتم على مدار الساعة أيضاً.
لذلك فالسؤال الآن، ماذا بعد رمضان؟! وما هو المطلوب من الفرد الخارج من شحنة وجرعة إيمانية قوية حتى يستثمر ويدّخر، ويجعل ما مضى في رمضان من طاعة انطلاقة في تقويّة الصلة الربانية؟
أولاً- "رمضانية القلب":
إن القلب المضيء بنور الإيمان ما زال يشعّ ضياء، وما زال أثر رمضان به ممتداً، ولعلّ من الرضا الإلهي على عباده في رمضان أن يوفّقهم للطاعة بعده ، فتجد الصيام المتتابع، وتجد الصلة للأرحام، وتشعر أن أجر الطاعات ممتد. لذلك على العبد أن يحافظ على قلبه كأنه في رمضان، فلا يستجيب لأباطيل النميمة والغيبة، أو يميل للشهوات وكأنه كان في السجن، فما هكذا تورد الإبل أبداً، وهذا مسار يدنّس القلب، ويملؤه راناً وسواداً، لكن بالصبر والاستمرار على ما كان منه في رمضان، عندها تهون الحياة، وتحلو بطاعة الله وحسن السريرة، ونقاء القلب الممتلئ بالطاعة والصفاء.
على العبد أن يحافظ على قلبه كأنه في رمضان، فلا يستجيب لأباطيل النميمة والغيبة، أو يميل للشهوات وكأنه كان في السجن
ثانياً- "صلة الأرحام":
إن الهمة العالية التي كانت في رمضان في التزوار وصلة الأرحام، لاينبغي أن تتوقف بعد ذلك، فهذه القيمة بالذات من أوجب الطاعات في رمضان وغيره، فكما ورد بالأثر أن الله تعالى يقول للرحم: (أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ) (رواه الشيخان). وليس أدل على عظمة صلة الرحم من هذا الأثر.
فالمرء هو من يحتاج تواصل ربنا معه في حياته، عبر توفيقه ومداد رزقه، فصلة الأرحام من أبواب التيسير، وسعة الرزق ، لذلك الاستمرار الاستمرار، فكلنا أحوج ما نكون لرضا ربنا وسعة في رزقنا.
ثالثاً- "وردك القرآني":
إن المساجد التي كانت تعجّ بالآلاف في رمضان وسط مجالس القرآن، هي إعلان توبة صادقة مع الله تعالى، وفي نفس الوقت، إعلان تقصير في حق هذا الكتاب الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد} [فصلت،42].
إن القرآن هو دستور هذه الأمة، شاء من شاء، وأبى من أبى، ويوم أن تمسّكنا به حكمنا العالم لقرون مضت، ويوم أن تخلَّينا عنه وتركناه في البيوت، والأسواق -كبركة فقط- أصبح حالنا لا يرضى عنه إنسان عاقل، لذلك، فمن المعيب أن يترك الفرد علاقته بكتاب ربه بعد رمضان، وكأن سوق العودة قد انفض، وأن العلاقة موسمية، وتلك مصيبة، فالمرء الفاهم لحياته حقاً هو ذلك العبد الرباني وليس الرمضاني، ومن يدري ربما لم تقبل قراءتك في رمضان، فكن على استعداد لها الآن، حتى تلتحم أعمالك بربك وبكتابه من جديد، معلناً الاستمرار في الطاعة، فأنت من تحتاج، فالله غني عن العالمين، لا تنفعه طاعة، أو تضرّه معصية.
من المعيب أن يترك الفرد علاقته بكتاب ربه بعد رمضان، وكأن سوق العودة قد انفض، وأن العلاقة موسمية، وتلك مصيبة، فالمرء الفاهم لحياته حقاً هو ذلك العبد الرباني وليس الرمضاني
رابعاً- "طهارة اللسان":
إن المرء الذي ظل ثلاثين يوماً يقول إني صائم إذا سبّه أحد أو أهانه، حقيق أن يظلّ في طهارة قلبه وعقله قبل لسانه، فالمرء ينطق بما يأمره به عقله، وطهارة اللسان هي ترجمة لطهارة العقول والقلوب، لذلك فرحم الله "معاذ بن جبل" لما قال: "أنحن مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟" فقال له الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم!). (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
فاللسان هو ذلك العضو التي تناشده جميع الأعضاء في الجسد أن يستقيم؛ لأن في اعوجاجه عذاب لهم، وفي صلاحه نجاة وراحة، لذلك فحقيق على كل شخص أن يبلور طهارة لسانه في رمضان؛ للاستمرارية بعده، فما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.
خامساً- "صلاح السريرة":
رحم الله من قال: "من أصلح سريرته فاح عبير فهمه ".
فمن كان في رمضان في سريرته تهجد وخشوع ودعاء، طامحاً وطامعاً في نيل الرضا الإلهي، ومن كان في رمضان باكياً خاشعاً ساعياً أن يكون من المقبولين، لا ينبغي أن يتحول بعد رمضان لشخص عادي فى عبادته، فقد اكتسبت رصيداً كبيراً حقيقٌ أن تحافظ عليه، وقطعت أشواطاً من العلاقة الربانية يجب أن تزيدك طاعة، ولجوءاً وصدقاً في سريرتك.
إن صدق السريرة من علامة الإيمان الحقيقي للفرد، فنحن لا نريد أن نرى في حياتنا أمام الناس خُلُق وخشوع أبي بكر، وفي الخلوات أفعال أبي جهل! والمرء يقيناً لا يمتلك وعداً بالقبول فيما مضى، لذلك فالإخلاص والتضرّع لله في الصلوات والفرائض أن يحافظ المرء على علاقته بربه في سريرته هو من أعظم شُعَب الإيمان، فالمراقبة لله هي قمة الإحسان، وهي ترجمة لحياء القلب وخوفه، وخشوع الجوارح من الله العلي القدير.
ختاماً، أخي الحبيب، نحن نكتب معينات على الاستمرار في الفوز بالطاعات والرضا الرباني؛ سعياً لخلق مجتمع صالح، تسود فيه البركة، وصلاح العباد، وانتشار القيم والفضائل، واندثار الرذائل، ومفاسد الأخلاق، ولأننا ندرك أن كل هذه الأمور مرهونة بطاعة الله، نكتب داعمين لها، ومحذرين من البعد عن طريق ربنا؛ لأننا لا نقوى على غضبه وناره، بل نطمع في عفوه ورحمته، في يوم يقف الجميع بين يديه يرجو مغفرته ويخاف عذابه.