هل جربت مرة أن تلاحظ نشوة شعورك حين تتغافل عن هفوة فعلها إنسان عن قصد أو دون قصد؟
هل جربت قياس الرضا النفسي الذي تشعر به وأنت ترفع عن هذا الإنسان ألم الحرج أو الاعتذار؟
هل قرأت في بريق عينيه العِرفان والتقدير والاحترام لما قمت به؟
هل لاحظت الخجل الذي اعتراه حين التزمت الصمت وتظاهرت بالتغافل وعدم التأثر بما بَدَر منه؟
كل هذه لغات لا تفهمها إلا النفوس الراقية التي تقدر الشعور الإنساني ولا تريد أن تخدش بريقه ولا تكسر كبريائه ولا تحط من قدره ولا تنال من حيائه.
كل هذه محاضرات تربوية عابرة للقلوب لا تحتاج لترتيبات مُسبقة، ولا تستهلك زمناً، ولا تحتاج لوسائل تعليمية حديثة، ولا تحدها جدران قاعات.
كل هذه محاضرات يستفيد منها المعلم والمتعلم على السواء فالمعلم يزداد رقياً ويأخذ بيد المتعلم ليصعدا سوياً سُلم لدرب من دروب الأخلاق قلما يستعمله كثير من البشر.
كل هذه رسائل مُفعمة بتقدير الحب، والإبقاء على الود، وسلامة الصدر، وحسن النية، ولين الجانب.
كل هذه رسائل مضمونها أن ما بنته السنوات لا تهدمه الهفوات.
أولاً: معنى التغافل:
التغافل هو الترفع عن الدنايا وسفاسف الأمور وهفواتها التي لا تغير الحقائق ولا تبدد الحقوق ولا تحط من الكرامة ولا تقر مُنكراً ولا تنكر معروفاً ولا تؤصل لباطل.
ثانياً: بعض آيات العفو التي وردت في القرآن الكريم:
1- قال تعالى: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة 52].
2- قال تعالى: ﴿... فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران 159).
3- قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف 199).
4- قال تعالى: ﴿... وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النور من الآية 22).
من الملاحظ أن العفو في الآيات جاء من موضع قوة وتمكن وعِزة وسيطرة فليس معنى التغافل الانقياد والخنوع والاستسلام للأمر الواقع.
ثالثاً: بعض الأحاديث التي وردت في السنة النبوية المطهرة التي تحث على التسامح والصفح والعفو:
1- سُئِلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالت: " لم يكن فاحشًا ولا مُتَفَحِّشًا ولا صَخَّابًا في الأسواقِ، ولا يَجْزِي بالسيئةِ السيئةَ، ولكن يَعْفُو ويَصْفَحُ " (رواه الترمذي). * صخاباً: صياحاً.
2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر " (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود).
3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " خدمتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عشرَ سنينَ، فما قال لي أُفٍّ قطُّ، وما قال لي لشيٍء لِمَ أفعلْهُ: ألا كنتَ فعلتَه؟ ولا لشيٍء فعلتُه: لِمَ فعلتَه؟ " (رواه الألباني بإسناد صحيح).
رابعاً: مواقف وأقوال في التغافل:
- لقد ضرب نبي الله يوسف عليه السلام أروع الأمثلة في ذلك عندما تغافل عن تطاول اخوته في حقه. قال تعالى: ﴿قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 77].
- قال أبو علي الدّقاق النيسابوري رحمه الله:.. جاءت امرأة فسألت حاتم الأصم عن مسألة، وأثناء السؤال صدر منها صوت خجلت منه، قال حاتم: ارفعي صوتك، فأوهمها أنه أصمّ، فسُرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلُقِّب بحاتم الأصم، وهو ليس بأصمّ، بل تظاهر بأنه ضعيف السمع، مما أوحى للمرأة بأنه أصم، مراعاة لمشاعرها، ولأجل أن لا يوقعها في الحرج".
- قال الإمام أحمد رحمه الله: "تسعة أعشار حُسن الخلق في التغافل".
وختاماً:
إن الذي يتصيد الأخطاء للناس لا يزداد إلا تعباً وهماً، ويتجنبه الناس ويعزفون عن صحبته.
لابد أن نوقن أن كل ابن آدم خطاء ولا عصمة لبشر إلا من عصمهم الله تعالى.
لابد وأن يكون ميزاننا وتقييمنا للآخرين شاملاً فلا ننسى خيرهم وصالح أفعالهم لمجرد هفوة أو زلة.
التغافل يمنع الجدال ويضمن سلامة الصدر والألفة والمحبة.
التغافل يعطي الطرف الآخر الفرصة لمراجعة النفس وتهذيبها.
التغافل لا يضخم الأمور ولا يرسخها بل يجعلها تمضي على أنها زلة عابرة وهفوة لا قيمة لها.
التغافل يقوم السلوك بابتسامة عاتبة أو بنظرة.
التغافل يكون عن السلوك نفسه وليس عن فاعله لنعينه على نفسه وعلى تصويب ما بدر منه.
التغافل لغة لا يقوم بها ولا يفهمها سوى كبار العقول، أصفياء النفوس، من يهتمون بكسب الأفراد قبل كسب المواقف.
اللهم أصلح ذات بيننا ولا تجعل للشيطان مكان بيننا.