يعتقد البعض أن الدور المنوط بالأب في الأسرة هو توفير المال وتأمين احتياجات الأفراد، في حين تحمل الأم على عاتقها التربية والتعليم والتنشئة والتعامل مع المشكلات المختلفة التي يتعرض لها الكيان الأسري، فهل هذا التصور معقول ويسهم في تنشئة العائلة المتزنة؟
أحياناً يكون غياب الأب عن الأسرة قسرياً ومجبراً للزوجة على تحمل كافة الهموم والمسؤوليات؛ والكثير من السيدات ينجحن في القيام بهذه المهمة الجبارة كونهن يدركن أنهن المعيل الوحيد لهذا العش فيمنحن كل جهدهن ووقتهن واهتمامهن، لكن في أحيان أخرى يكون الأب حاضراً غائباً في منزله، يكدح ليعيش الأبناء ويلقي بأحمال التربية والتعليم على ظهر الزوجة، فهل التربية مسؤولية الأم وحدها؟ وهل ستتحقق نتائج إيجابية لو كان الزوجان متشاركين في هذه المهمة؟
الدكتور أحمد فتحي قاسم عضو مكتب الإصلاح والتوفيق الأسري بدائرة قاضي القضاة الأردنية قال في حديثه لـ"بصائر" إن الله عز وجل وصف الأبناء بـزينة الحياة الدنيا في قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف:46]، وهم نعمة تستحق الشكر ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا* وَبَنِينَ شُهُودًا* وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ [المدثر:12-14]، لذلك جاءت النّصوص الشرعية تؤكد على ضرورة تربية الأبناء تربية صحيحة سليمة، وتحذر من التقصير والإهمال في تربيتهم قال -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]. وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]. وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)).
وأضاف قاسم: يقول الإمام ابن القيم في تحفة المودود: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوها صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا".
ويوضح قاسم قائلاً: ولعظيم هذه المسؤولية نرى الأنبياءَ يسألون الله لذريَّتهم الصلاح والهداية، قال تعالى عن الخليل عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [إبراهيم:40]؛ وها هو زكريا عليه السلام ينادي ربه قائلاً: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: 38] ودعاء المؤمنين: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان:74]، وقال تعالى حكاية عن العبد الصالح: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف:15].
التربية ليست على الأم فقط
ويضيف: المسئولون عن تربية الأولاد في الأسرة بالدرجة الأولى هما الأب والأم قال صلى الله عليه وسلم: "والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها" ولكل منهما دور ووظيفة في الأسرة تتناسب مع طبيعة كل منهما، فالأب غالباً من تكون له القوامة والسلطة والسيطرة واتخاذ القرارات وتأمين العيش الكريم للأسرة، والأم غالباً ما تقوم بالتربية والرعاية والحنان، فأي تقصير في الدور أو حدوث تداخل في الأدوار يؤدي إلى حدوث خلل في الأسرة، سواء كان التقصير من الأب أو الأم .
كما قد شاع في مجتمعاتنا انحصار دور الأب في تأمين الحاجات المنزلية لعائلته بمنأى عن انخراطه في الحاجات اليومية لأولاده من تربية وتعليم ورعاية، وذلك بسبب غيابه، وغيابه لا يعنى فقط أنه مسافر، ولكن قد يكون متواجدا مع أفراد أسرته، ويعيش معهم في نفس المنزل، إلا أنه لا يقوم بدوره الطبيعي لأسباب عديدة من بينها أن يكون مشغولاً طوال الوقت في عمله، أو أنه يتسم باللامبالاة تجاه الأسرة، أو أنه يفتقد لعنصر المسئولية فيتواجد في المنزل وكأنه الحاضر الغائب، أو العكوف الساعات الطوال مع الأصحاب في الاستراحات والمتنزهات وغيرها، أو إهمال البيت الأول إذا تزوج الأب بزوجة جديدة.
الغياب والآثار السلبية:
ويوضح قاسم أن غياب الأب عن دوره في الأسرة، واقتصاره على تأمين الحاجات الأساسية للأسرة آثار سلبية على الأسرة منها:
1-انحراف الأبناء لعدم إحساسهم بوجود رقيب عليهم وخاصة في مرحلة البلوغ، التي تتطلب عناية ورعاية خاصة تتناسب مع التغيرات على الأبناء في هذه المرحلة، فهذا السن يتطلب جهداً مضاعفاً من المتابعة والصحبة والتوجيه والإرشاد والعقاب والثواب وغير ذلك من وسائل التربية، ويتطلب الحزم والقوة أحيانا والحكمة والقدرة على اتخاذ القرار وملكة الإقناع وغيرها من الصفات القيادية التي غالباً ما يتمتع بها الرجل، مع التنويه أن من الأمهات حباهن الله بتلكم الصفات، وكان لهن دور عظيم في تربية أولادهن عند غياب الأب أو فقده.
2- إحداث اختلال في توزيع الأدوار مما يؤدي إلى زيادة المسؤولية على الأم وقيامها بدورها ودور الأب، ويؤدي إلى حدوث حالة من العزلة النفسية أو الحاجز النفسي بين الأب وبقية أفراد الأسرة الذين يعتبرونه دخيلاً عليهم أو ضيفاً لساعات معدودة، أضف إلى أن حنان الأب يجنّب الطفل الشعور بالقلق والخوف، ويزيد من إحساسه بالثقة بالنفس وتقدير الذات، ويحدّ من شعوره بالعدائية .
وأحيانا يعالج الأب غيابه عن الأسرة باستخدام العنف في التربية لإثبات وجوده وسلطته في البيت مما يؤدي إلى مزيد من التفكك الأسري، بالإضافة إلى إصابة الأبناء بالقلق والخوف والعدائية والعناد، وتدني مستوى احترام الذات، وفقدان الثقة بالنفس، واهتزاز الشخصية، وحدوث خلل في البناء العقلي والنفسي والاجتماعي، وإيجاد حاجز نفسي بين الأب والأبناء، مما يؤدي إلى الانحراف لفقدان الأبناء القدوة الحسنة وللحنان والمحبة، مما يوقع الأبناء في اليتم المعنوي أو المجازي كما قال الشاعر:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلفــاه ذليلا.. إن اليتيم هو الذي تلقى له أمًّا تخلـّـت أو أبا مشغولا
والمطلوب هو أن يراعى الآباء عملية التوازن بين متطلبات العمل، وبين تربية الأبناء ورعايتهم، وقضاء الوقت المناسب معهم، وترتيب جلسات حواريهم، والجلوس معهم على مائدة الطعام، وقضاء وقتٍ للترفيه والتنزه، فيصبح الأب الصديق والمستمع والمرجع الأول لأطفاله.
التشارك في المسؤولية
من جهتها قالت الدكتورة هند ناصر الدين المختصة الاجتماعية أن الأصل أن يكون "قطبا الأسرة" وهما الأب والأم الشخصين المسؤولين بالتشارك عن النواة الأولى في المجتمع؛ إلا أنه وغالباً يكون العبء الأكبر على الأم بحكم الحب والحنان والعاطفة التي لديها، لكن هذا لا يهمش دور الأب؛ فالأصل في الحياة الأسرية أن تكون قائمة على علاقة الشراكة والاتفاق على الأدوار وهذا يجب أن يكون مؤصلاً منذ بداية الحياة الزوجية ومتفق عليه منذ مرحلة الخطوبة.
وترى ناصر الدين بأن شراكة الأبوين تكتمل مستقبلاً بالتشارك مع الأبناء ومنحهم أدواراً داخل الأسرة وتعويدهم على حمل المسؤولية، وعلينا أن نتذكر دائماً أن الأبناء يتطلعون لعلاقة والديهم وطريقة إدارتهما للأسرة؛ وهذه العلاقة غالباً ما تصبح جزءً من الواقع الأسري المستقبلي حيث إن الأبناء يقتبسون سلوكيات والديهم الاجتماعية غالباً، والعلاقة الأسرية تؤثر غالباً بالسلب أو الإيجاب على علاقات الأبناء في المدرسة والمجتمع؛ فوجود أي اختلال في الأدوار داخل الأسرة سيتسبب بمشكلات تواجه الأبناء في حياتهم العملية والاجتماعية.
وتعتبر ناصر الدين أن تواجد الأب داخل المنزل 24 ساعة أو تواجد الأم طيلة اليوم ليس دليلاً على الاستقرار ؛ فهناك الكثير من الأمهات لا يعملن ويتواجدن دائما في المنزل ويعتبرن ذلك تفانياً من أجل الأبناء ولكن مثل هذه الأم تكون غائبة عن دورها في التربية فهي منشغلة في الأعمال المنزلية وتدبير شؤون الأسرة لكنها لا تمنح أبناءها الوقت الكثير، موضحة أن الوقت الذي يحتاجه الأبناء هو الوقت الموجه لهم وللاهتمام بقضاياهم والاستماع لهم وتربيتهم، وما يراد من الوالدين هو توفير وقت "إيجابي" لأبنائهم وليس التواجد وتوجيه الانتقادات والملامات للأبناء.
وتابعت ناصر الدين: أحياناً يكون لدينا أب متواجد بشكل دائم في المنزل لكن علاقته بأبنائه مبنية على الخوف ولذلك فهو لا يعرف الكثير من شؤون الأسرة، حيث يصبح لدينا أب مغيب ولا فائدة من تواجده، والأصل أن تكون هناك متابعة من قبل الأب لشؤون الأبناء بالتعاون مع الأم والتي بدورها يجب أن تنشئ الأبناء على أن هناك شراكة بينها وبين الأب لكي لا يعتاد الأبناء على تمرير الأمور دون معرفة الأب.
ونوهت ناصر الدين إلى أن مكوث الأب في المنزل لا يعني أن يوجه الانتقادات للأبناء، والتعليق على تصرفاتهم فهذا لا يصب في المصلحة التربوية، فعلى الأب تفهم المراحل العمرية التي يمر بها الأبناء واحترامهم وتقبلهم والحديث إليهم ونقاشهم ومشاورتهم.
وتعتبر ناصر الدين أن زمن "الأم المضحية" يجب أن ينتهي ويحل محله زمن توزيع الأدوار داخل الأسرة، لكي لا يكون هناك ضحية، فتأدية الأم للأداور جميعها يفنيها، مشيرة إلى أن بعض السيدات يقهمن بتهميش دور الرجل داخل المنزل وحمل كافة الأعباء من شراء مستلزمات الأسرة وحضور اجتماعات المدارس وغير ذلك من الأمور وهذا يؤثر سلباً على ارتباط الأب بالأسرة والأبناء مشيرة إلى أن الأصل في الأب والأم التشارك في المتابعة والإشراف والمراقبة .
ومن الأخطاء التي يقع بها الآباء بحسب ناصر الدين هو "التوقعات العالية" التي يتنظرها الأبوان من أبنائهم في تحصيلهم الدراسي والمعرفي وعدم الإحاطة بقدرة أبنائهم الحقيقية، فالأب الغائب يطمح أن يحصل ابنه على أعلى الدرجات ويعاقبه إن لم يحقق ذلك دون النظر إلى مستواه وقدراته، وكذلك الأم المشغولة تنتظر من ابنتها أن تكون الأولى على فصلها، ما يدفع الأبناء للكذب والغش خشية من عقوبة والديهم، مشيرة إلى أن الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الأولى والمدرسة هي المؤسسة الاجتماعية الثانية المكملة لدور الأسرة ولا يكتمل النجاح في أحدهما دون الآخر.
وأكدت ناصر الدين على أهمية اتفاق الزوجين على المكاشفة في مشكلات الأبناء، فالصمت عن بعض المشكلات التي يتعرض لها الأبناء يكون كارثة في بعض الأحيان، وعلى الأمهات أن لا يخفين هذه المشكلات ويحاولن حلها بشكل منفرد بل تجب المشاركة في وضع الحلول والتعامل معها حتى لو كان الأب عصبياً أو قد تحدث مشكلة بسبب هذه الصراحة لكنها غالباً ما تكون ناجحة في حل القضايا المتعلقة بالأبناء.