مِن بين أكثر الأمور المطروقة في أدبيات الحركة الإسلامية على اختلاف مشاربها وألوان طيفها الفكري والتنظيمي، قضية #التمكين.
والتمكين أو الـ"Stabilization" أو الـ"Authorize"، هو مصطلح يأخذ أكثر من مستوىً، فهناك المستوى السياسي للمفهوم، والمتعلق بنظام سياسي أو فكرة أو أيديولوجية، يصل إلى الحكم لتنفيذ برنامجه أو فرض أفكاره، وهناك التمكين المجتمعي، ويعني منح فئات معينة من أبناء المجتمعات -مثل الشباب والمرأة- حقوقهم، والقدرة على ممارسة أدوارهم في مختلف الاتجاهات وهكذا.
وفيما يخص المستوى المتعلق بالحركة الإسلامية وأدبياتها، فإن "التمكين" في الاصطلاح يعني بدوره أكثر من أمر.
فهناك التمكين للدين، وهناك التمكين لجماعة من المسلمين، أو للحكم الإسلامي بشكل عام، ومن المفترض أن يكون ذلك من أجل التمكين للدين، وبالتالي تنفيذ شريعة الله عز وجل وأحكامها في الأرض.
وهذه العبارة هي من أهم ما يكون في صدد القضية التي نحن بصددها في هذا الموضع.. التمكين للحكم الإسلامي –أو مَن يمثله من جماعات أو شخوص أو تنظيمات.. إلخ – من أجل التمكين للدين وإقامة الشريعة.
فإن سوء الفهم والتطبيق الذي أحاط بهذا الأمر على وجه الخصوص، يُعتبر من بين أبرز المشكلات التي قادت إلى صور شتى من الأزمات، ليس على مستوى الحركة الإسلامية فحسب، وإنما كذلك على مستوى الأمة بالكامل، من أسوئها التكفير والاقتتال الداخلي.
سوء الفهم والتطبيق الذي أحاط بمفهوم التمكين، يُعتبر من بين أبرز المشكلات التي قادت إلى صور شتى من الأزمات، ليس على مستوى الحركة الإسلامية فحسب، وإنما كذلك على مستوى الأمة بالكامل، من أسوئها التكفير والاقتتال الداخلي
وفي حقيقة الأمر، فإن قضية التمكين قضية كُلِّية شديدة الأهمية في الإسلام، من الناحية العَقَدية .
فهي أولاً ترتبط بقضية نشر الدعوة وتحكيم شريعة الله تعالى في الأرض، وهي من أولويات أي مسلم، كما أنها ثانيًا، تضم -وفق المفهوم القرآني- الكثير من الأمور المتعلقة بالتسخير، حيث التمكين هو أعلى وأجلى صور التسخير.
فالتمكين يعني في أقرب معنىً له بالمنظور السياسي، الحق والقدرة في السيطرة وتوظيف الموارد، وتوزيعها، وبالتالي فهو يتصل بنقطة عمران الأرض واستخلاف الله عز وجل للإنسان فيها.
التمكين يعني في أقرب معنىً له بالمنظور السياسي، الحق والقدرة في السيطرة وتوظيف الموارد، وتوزيعها، وبالتالي فهو يتصل بنقطة عمران الأرض واستخلاف الله عز وجل للإنسان فيها
والنقطة الثانية، بها ما يتعلق بالمحاسبة، حيث إن عدل الله تعالى اقتضى أنه لا يكون هناك حساب إلا بمسؤولية، والمسؤولية لا تكون إلا بقدرة الإنسان على استغلال الموارد والتحكم فيها والحرية وغير ذلك.
التمكين.. مشكلات في الرؤية والتطبيق
بفحص الأدبيات والإجراءات التي تمت على الأرض، والاستراتيجيات التي تم تبنيها في هذا الصدد خلال العقود الماضية من تاريخ الحركة الإسلامية، فيما يخص هذه القضية، فإننا سوف نجد أنفسنا أمام الكثير من الأخطاء المفاهيمية التي قادت إلى نتائج سلبية في التطبيق.
وربما لا نكون مبالغين لو قلنا إن ذلك كان أحد أهم أسباب نفور الكثير من شرائح الجمهور الإسلامي العريض في العالم الإسلامي، أو حتى من غير المسلمين من مجتمعات الدعوة المحتملة، من الحركة الإسلامية ومن الدين ذاته، ودفعت إلى تفضيل مجتمعات وتجمعات مسلمة بالكامل لخيار العلمانية عن خيار "التمكين الإسلامي" بالصورة الخاطئة التي طرحتها بعض الجماعات.
وجاءت ظروف الفوضى التي ضربت الكثير من الدول المركزية في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، وأدت إلى تراجع قبضة الدولة وسلطتها على مساحات واسعة من أراضيها، مثل العراق وسوريا وليبيا، لكي تفسح المجال أمام ظهور نوعية من المجموعات المسلحة التي تلبَّست رداء السلفية الجهادية، ونفذت صورًا أقل ما تُوصف به بأنها مرعبة، للتمكين الإسلامي، مما دفع شرائح واسعة من العرب والمسلمين، وغير العرب والمسلمين، إلى الاعتقاد بأن النموذج الإسلامي في الحكم لا يعني سوى العودة إلى العصور الوسطى!
وحتى على مستوى الحركة الإسلامية الصحوية، وجدنا بعض المجموعات المحسوبة على تيار، المفترض أنه الأكثر انفتاحًا وتقدمية في أفكاره ورؤاه عن الحكم في الإسلام، وصورة الدولة، وهو تيار الإخوان المسلمين، قد حاد عن الصورة المثلى الجذَّابة المفترض تأليف القلوب بها حول المشروع الإسلامي، من خلال بعض الأمور والممارسات التي جرت خلال الحرب السورية.
ولكن نبقى مع أدبيات وأفكار الحركة الإسلامية الصحوية التي تظل حقيقة مهمة، أنها هي التي قدمت النمط الأفضل، أو على الأقل الأكثر قابلية للمناقشة في هذا الأمر، من بين الأوساط والجماعات الأخرى التي تضع نفسها ضمن تصنيف "إسلامي".
من بين الأخطاء المهمة التي نجدها في هذا الصدد، خطآن من نوعية الأخطاء التي يُطلق عليها توصيف "الأمور التأسيسية"، وهما، أولاً، الخطأ التقليدي، والذي يستبدل الدين بالجماعة، أو يطابقهما، وهذا أمر أو مرض تم تناوله في أكثر من موضع من الحديث، ومفهوم وواضح، وقاد لمآسي عدة نراها في عالمنا اليوم.
الخطأ الثاني، هو الوقوف عند مرحلة التمكين كهدف، بل كغاية، وعدم وجود أي تصوُّر لما بعد التمكين، وفق المفهوم الشرعي للتمكين.
وهي مشكلة واجهتها أحزاب إسلامية عديدة، محسوبة على تيار الإخوان المسلمين، أو غير تيار آخر، عندما نجحت جزئيًّا في تصدُّر المشهد الانتخابي في الكثير من الدول بعد ما يُعرف بثورات "الربيع العربي"، حيث لم يجد الرأي العام –مع تحييد عامل المؤامرة التي تعرضت لها بعض هذه الأحزاب من قوى ممانعة– صورة واضحة لسؤال مركزي ومشروع، مفاده: ما هي معالم نموذج التمكين للمشروع الإسلامي؟
وهنا نجد قصورًا، بل خللاً في فهم مصطلح "التمكين"، حيث التمكين للدين أو للمشروع الإسلامي، لا يعني فقط إقامة الشريعة، وإنما استيفاء كافة أركان النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة أو المجتمع الذي تتحرك فيه الحركة الإسلامية، وتسلمت فيه فعلاً زمام السلطة والقرار.
التمكين للدين أو للمشروع الإسلامي، لا يعني فقط إقامة الشريعة، وإنما استيفاء كافة أركان النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة أو المجتمع الذي تتحرك فيه الحركة الإسلامية، وتسلمت فيه فعلاً زمام السلطة والقرار
التمكين في النَّص القرآني
قد لا يعلم الكثيرون أن مبدأ القرآن الكريم في نقطة التمكين وغيرها، هو أن كل شيء يتم، إنما يتم بمراد الله تعالى، وبمشيئته.
والقرآن الكريم، عندما تكلم عن التمكين في سُور عديدة، مثل "يُوسُف" و"الكهف"، و"الحَج" و"الأنعام"، فإن الله تعالى يقول في كل موضع من المواضع التي ورد فيها مصطلح "مَكَّنَّا" أو "مَّكَّنَّاهُمْ"، أو غير ذلك من الاشتقاقات، فإن مردها إلى الله عز وجل، حتى تمكين الظالمين، وليس الأنبياء والصالحين فحسب.
يقول تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [سُورة الأنعام- الآية6]، فهذه الآية تشير إلى أن التمكين من لدن الله عز وجل، وسواء للكافرين أو للمؤمنين "مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ".
والدليل من القرآن الكريم كذلك، حيث يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سُورة الحَج- 41].
فالآية تشير إلى منظومة كاملة من المهام والأعباء التي يفرضها تمكين الله تعالى للمسلمين، في العبادات (الصلاة)، والاقتصاد (الزكاة، وهي كذلك عبادة)، والرعاية الاجتماعية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي كذلك عبادة).
وهذا الأمر يطرح حقيقة مهمة للتمكين، وهي أنه ليس بالمفهوم السياسي فحسب، وإنما قد يكون في شأن اجتماعي، بل في أبسط الأمور والموارد، حتى رعاية الأسرة، هذا تمكين لرب الأسرة، والله تعالى يقوِّم عمله، ويحاسبه إما ثوابًا أو عقابًا، بحسب ما اقترف وجاء به من أداء.
وفي هذا، وبشكل عام، ينظر الله تعالى فيما مكَّن الإنسان فيه، وهذه العبارة تتضمن بعض الأمور المهمة بجانب ما سلف.
واجب الوقت، هو تصويب هذه المفاهيم، والتأكيد للصف الناشئ على أنه ينبغي على الناس أن تنظر لما تحت أيديهم من موارد، ومن أمانات، ومن كل شيء مكَّن الله تعالى لهم فيه
ومن بين أهم ما فيها، هو أن هذا الذي آتى الله عز وجل إياه المسلم أو الجماعة أو القيادة المسلمة، إنما هو لاختبار الجميع فيه، مع احتفاظ الله عز وجل بحق أصيل لم يشرك فيه أحدًا، وهو النتيجة والمحاسبة، بينما نجد بين ظهرانينا مسلمين يحاسبون الله عز وجل –حاشا لله– لأنه لم يستجِب لهم، أو لم يمكِّن لهم، أو يتساءلون عن التوقيت، وكذا!
وبالتالي فإن واجب الوقت، هو تصويب هذه المفاهيم، والتأكيد للصف الناشئ على أنه ينبغي على الناس أن تنظر لما تحت أيديهم من موارد، ومن أمانات، ومن كل شيء مكَّن الله تعالى لهم فيه، ولو كان مسؤولية أسرة صغيرة، كيف يتحركون فيها، فإنهم عنها مسؤولون.