تناقشت مع صديق لي يوما عن مسألة الإسبال، والإسبال هو إطالة الثوب إلى ما تحت الكعبين كما هو معروف.
وكان صديقي من المدرسة التي تؤكد على المقاصد في كل فعل، وكذلك كنت أنا وما زلت، غير أننا اختلفنا في النظرة إلى المسألة.
فقد جزم هو بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حسم المسألة عندما نهى عن الإسبال، فسأله أبو بكر عن إزاره الذي يسترخي، فقال لأبي بكر: لست يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء. وذلك يعني أن الإسبال جائز لمن لا يفعله خيلاء.
لم أختلف معه في هذه النقطة، وإن كان فيها خلاف، ولكنني قلت له: لكن الذي يقصر ثوبه امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وإن لم يكن به خيلاء، فإن له أجرا وثوابا خاصا، ونستطيع أن نقول أنه الأرضى لله.
اعترض الصديق اعتراضا كبيرا على كلامي، ورفضه رفضا قاطعا، وتحدث عن ظاهر الحديث، ومقصد النهي عن الإسبال بنفي الخيلاء، فإن لم يكن خيلاء فلا نهي، ولا فضل لمن يقصر.
قلت له: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسبل، وكان يقصّر ثوبه، فكيف ترى ذلك الذي يقتدي برسوله ولو من غير مقصد، ألا ترى له ثوابا في ذلك، مع عدم الإنكار على الآخر الذي يسبل أخذا بكلام النبي لأبي بكر.
اختلفنا في الحوار، وبقي هو على رأيه، وبقيت على رأيي، بل وتوثق هذا الرأي عندي فيما بعد.
يشبه هذا إلى حد كبير ما يسمى اصطلاحا ( الأخذ بالعزيمة ) في الأحكام الفقهية والتشريعية.
فالأحكام الفقهية والتشريعية يرد فيها أكثر من رأي، يبدأ بالأيسر ثم ما بعده إلى أن يصل للرأي الأثقل والأكبر كلفة.
وإن المسلم الذي يأخذ نفسه بالرأي الأثقل والأكبر كلفة ابتغاء أعظم الثواب هو الأعظم ثوابا حقا.
ولنضرب مثالا على ذلك.
تعددت الآراء في عدد ركعات صلات التراويح في رمضان، فقال قوم: إحدى عشرة ركعة، وقال آخرون: عشرون ركعة، وقال آخرون غير ذلك.
فإن أخذ أحد بالعزيمة، وعمل بالرأي الذي يقول بأكثر الركعات، فإن الله لن يضيع أجره، وسيزيده طالما زاد.
وهنا يكون الحديث عن الفرق بين الأخذ بالعزيمة وبين التشدد.
فالأخذ بالعزيمة يعني عمل الفرد بأشد رأي في المسألة على النفس طمعا في زيادة الأجر، وهذا محمود غير مذموم.
أما التشدد فيعني القول بالرأي الأشد على أنه الرأي الواحد في المسألة، وإنكار غيره من الآراء وازدرائها، وحمل الناس جميعا على هذا الرأي الواحد، بل والإنكار الشديد عليهم إن أخذ أحدهم برأي أيسر غيره، إلى حد الرمي بالابتداع والفسوق.
الأخذ بالعزيمة يعني عمل الفرد بأشد رأي في المسألة على النفس طمعا في زيادة الأجر، وهذا محمود غير مذموم، أما التشدد فيعني القول بالرأي الأشد على أنه الرأي الواحد في المسألة، وإنكار غيره من الآراء وازدرائها، وحمل الناس جميعا على هذا الرأي الواحد
وخلاصة المسألة: للمرء أن يأخذ بأحوط الآراء وأثقلها على النفس ابتغاء في زيادة الأجر، ولن يضيع الله أجره حينها، وسيزيده لزيادته.
وليس له أن يحمل الناس جميعا على ما عمل به، ولا أن يدعوهم إلى الرأي الذي أخذ به على أنه الرأي الواحد في المسألة، ما دامت مسألة ورد فيها الاختلاف من أئمة معتبرين.
أما عن التيسير فما أحوج الأمة إليه اليوم، في زمن الشهوات والملذات، زمن شغلت فيه الدنيا الناس، حتى كادوا ينسون فيه ربهم ودينهم.
وحسنٌ قولُ من قال: لم تحتج الأمة في تاريخها كله لفقه التيسير ورفع المشقة مثلما تحتاجه اليوم.
لكن على الفقيه الميسّر أن يذكر حال ذكر فتواه في المسألة كل الآراء الواردة فيها، حتى يكون للمستفتي سعة في الاختيار من الآراء لما يناسبه وما يرتاح إليه.
وإنه لمن الخطأ الكبير أن يعمد المُفتي إلى ذكر أيسر الآراء في المسائل كلها إذا ما استُفتي، فيذكر الرأي الأيسر في المسألة وكأنه الرأي الوحيد فيها، فإن هذا ليس من التيسير وإنما هو تمييع للدين.
فلعله أن يكون المستفتي من أهل العزيمة كما ذكرنا آنفا، ويحب أن يأخذ بالرأي الأثقل طمعا في زيادة الأجر، ويقدر بطبيعته وحاله على الأخذ بهذه العزيمة، فلماذا يحرمه المفتي حينها من ذلك؟!
فرقٌ بين التيسير والتمييع، لا بد أن ينتبه إليه الجميع.
فعلى سبيل المثال، تأتي قضية الغناء كقضية من القضايا التي شاعت في هذا الزمان، وكثر حولها الجدال والخلاف.
فإذا قال الميسّرون بأن الغناء مثل الكلام؛ حلاله حلال وحرامه حرام، فبها ونعمت.
وإذا قالوا كذلك: إن الموسيقى حلال، فبها ونعمت، فهي من المسائل الخلافية، التي تحتمل هذا.
وإذا قالوا أيضا: إن بعض الغناء العاطفي غير محرّم ما دام غناء عفيفا لا يحمل فحشا ولا بذاءة، فبها ونعمت.
أما أن يقوم أحدهم، وهو ممن يُستفتون في أمور الفقه والدين، فيقول بإباحة كل ذلك، ثم يذكر أسماء بعض المغنيات اللاتي يحب أصواتهن وغناءهن، مع أنهن مغنيات متفحشات عاريات مائلات مميلات، فهذا هو من التمييع بعينه لا من التيسير، والأدهى من ذلك أن يذكر أغنية بعينها فيها عري ورقص.
ومثالٌ آخر، فنّ التمثيل والتشخيص، حيث يذهب الميسّرون إلى أنه من الجائز، بل من الواجب أن يسعى إليه أهل الدين، وأن يبدعوا فيه، نظرا لما أصبح يحدثه من تأثير كبير في عموم الناس؛ عالمهم وجاهلهم، كبيرهم وصغيرهم.
لكن أن يجالس هؤلاء الميسّرون بعض الممثلين والمشخّصين المشتهرين بأعمالهم الفاحشة، فهذا من التمييع.
وأن يجتمع هؤلاء الميسرون بأمثال هؤلاء الممثلين والمشخّصين، فيحدثونهم عن رسالة الفن السامية، وعن أنه عنوان الحضارات وعلامة نهضتها وانتصارها، وعن أن الفنان له من التأثير ما لا يوجد له مثيل ولا حتى عند الدعاة والمربين وعلماء الدين، ثم لا يحدثونهم مع ذلك عن حرمة التعري والتفحش، وعن لزوم أن يكون الفن مضبوطا بضوابط الدين، لا يخرج عنها ولا يحيد وإلا أصبح من المحرّم الذي يجب إنكاره ومحاربته، فهذا من أكبر التمييع في الدين، وإن الحديث بهذ الشكل مما يزيد من تمسك هؤلاء العصاة بمعاصيهم ومناهجهم في الفن والحياة.
وخلاصة القول: فرقٌ بين التيسير في الفتوى وبين التمييع فيها، والتيسير أن تذكر للناس الآراء الواردة في المسألة، وأن لا تفرض عليهم رأيا واحدا، وأن تذكر لهم أيسر الآراء المعتبرة في المسألة مع الآراء الأخرى، وتترك لهم السعة في الاختيار بين هذه الآراء.
والتمييع هو أن نعمل بأيسر الآراء في الأمور كلها، ونذكر الرأي الأيسر في كل مسألة وكأنه الرأي الوحيد.
ثم إنه من أكبر التمييع أن نجالس المذنبين والمقصرين والمتفحشين، ولا نأخذ على أيديهم، بدعوى التيسير والوسطية.
التيسير أن تذكر للناس الآراء الواردة في المسألة، وأن لا تفرض عليهم رأيا واحدا، وأن تذكر لهم أيسر الآراء المعتبرة في المسألة مع الآراء الأخرى، وتترك لهم السعة في الاختيار بين هذه الآراء. والتمييع هو أن نعمل بأيسر الآراء في الأمور كلها، ونذكر الرأي الأيسر في كل مسألة وكأنه الرأي الوحيد
وقد ورد في الحديث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ أَوَّلَ مَا دخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّه كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّه وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ، ثُم يَلْقَاهُ مِن الْغَدِ وَهُو عَلَى حالِهِ، فَلا يَمْنَعُه ذلِك أَنْ يكُونَ أَكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ...إِلَى قوله: فَاسِقُونَ [المائدة:78- 81].ثُمَّ قَالَ: كَلَّا، وَاللَّه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، ولَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ليَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ" رواه أَبُو داود والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ.