دروس حركية من صلح الحديبية

الرئيسية » خواطر تربوية » دروس حركية من صلح الحديبية
books24

من الأحداث الهامّة في التاريخ، والتي قد غيّرت مجراه من حقبة زمنية يحفّها الجهل، والشرك، وهبوط الأخلاق الإنسانية بالحضارات الوثنية الموجودة إلى الدرك الأسفل من المستويات الإنسانية، إلى حقبة أخرى يجتاح فيها الإيمان جزيرة العرب؛ لينطلق منها فاتحاً قلوب الخلق لذلك النور القادم من قلب الصحراء؛ ليعم الإنسانية عدلاً، وصدقاً، وطهراً وجمالاً، ولتعلو فيه القيم الربانيّة المجرّدة لا لشيء إلا لإسعاد الإنسان، واستقامة حياته، وضمان استمرارها على خير ما يكون، من هذه الأحداث وأهمها: "فتح مكة"، حيث تحوّل الإسلام من طور المطاردة، إلى مرحلة الغزو والانتصار والفتح المبين، وكان ذلك في (رمضان 8 هـ).

وقبل الفتح الذي سمي بالفتح الأعظم، كانت هناك مقدّمات وإرهاصات تشي بذلك الفتح، ومن أكبر تلك الدلائل حدثٌ نزلت فيه آيات رب العالمين، تبشِّر بالفتح المبين، فقال تعالى في كتابه العظيم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)}[سورة الفتح]، ذلك الحدث هو (صلح الحديبية).

- في الطريق إلى مكة:

عزم النبي صلى الله عليه وسلم الذهاب لأداء مناسك العمرة، وأخبر صحابته رضوان الله عليهم بمن يريد أن يرافقه، فاصطحب معه ألفاً وأربعمائة من المهاجرين والأنصار معاً، لا يحملون معهم سلاحاً إلا ما يلزم الطريق؛ لأنهم لا يريدون قتال المشركين، وقد لبسوا ملابس الإحرام؛ ليثبتوا لقريش عدم نيتهم في القتال، وأنهم حملوا السيوف مدعاة السفر.

وحين اقترب النبي وصحابته من مكة، سمعوا أن قريشاً أعدّت لهم جمعاً؛ لمنعهم من الوصول لبيت الله الحرام، فنزل الرسول صلى الله عليه و سلم إلى الحديبية، وأرسل مع عثمان بن عفان رسالة قال فيها:

(أخبرهم أننا لم نأت لقتال، و إنما جئنا عمّاراً، و ادعهم إلى الإسلام). وأَمَرَهُ أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح، وأن الله عز وجل مظهر دينه بمكة. فانطلق عثمان بن عفان حتى وصل قريشاً، فقالوا: "إلى أين؟"، فقال: "بعثني رسول الله أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ويخبركم: أنه لم يأت لقتال، وإنما جاء عماراً"، قالوا: "قد سمعنا ما تقول فانفذ إلى حاجتك".

قرّرت قريش احتباس عثمان بن عفان، فشاع خبر قتله بين المسلمين، وهنا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لبيعة المسلمين على القتال؛ خوفاً على حياة عثمان، فحصلت بيعة الرضوان تحت الشجرة، لتتنزل آيات رضوان الله عليهم جميعاً، ولمّا كان عثمان رضي الله عنه غائباً، فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم يمينه في يساره وقال: (وهذه بيعة عثمان).

وهنا أرسلت قريش للمسلمين ونبيهم "عروة بن مسعود الثقفي" و"سهيل بن عمرو"؛ لعقد الصلح، ثم اتفقا على قواعد الصلح.

- رجال المفاوضات والصلح:

من المعروف في عالم الحكم أن الأنظمة تحوي رجالاً للحكم السياسي، ورجالاً للحرب، رجالاً يديرون عمليات السلام الناعم، والمفاوضات، ويتحدّثون إلى الآخر حسب ما يقتضي الموقف من تهدئة، وآخرون رجال قوة وصلادة وتصعيد، وحين قررت قريش الصلح مع المسلمين، لم تختر رجلاً لا يمثّلها من قبيلة أخرى، ولا يحمل قضيتها، وإنما اختارت رجلاً قرشياً، أيضاً اختارت من يلائم عملية السلام المرتقب، فلم يكن "عكرمة" ولا "خالد بن الوليد"، إنما اختارت "سهيل بن عمرو" الذي لم يكن في سيرته مصادمات مع المسلمين، وحين رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قادماً استبشر، وقال: (قد سهل لكم أمركم)، ومن تلك النقطة يجب أن تتعلم الحركة الإسلامية اليوم التخصص في المهام، فلكل رجل مهمة تصلح له ويصلح لها.

يجب أن تتعلم الحركة الإسلامية اليوم التخصص في المهام، فلكل رجل مهمة تصلح له ويصلح لها

-لماذا كان الصلح بشارة بالفتح:

خرج الإسلام من مكة مطارداً هارباً خلسة في الليل، متمثلاً في أشخاص الصحابة رضوان الله عليهم، ثم في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وما زالت قريش تطارده وتناوئه حتى دخل عليهم النبي بيتهم نهاراً في عمرة معلنة، أي أنه اعتراف من قريش أن الإسلام أصبح كياناً قوياً من الصعب محاربته، وقد وجب وقت التصالح والهدنة.

فيجب على المستضعف أن يعي ذلك، وأنه ما اضطر القوي أن يتفاوض إلا لشعوره بعدم الاستطاعة إلا المهادنة، لذلك كانت الحديبية نصراً مبيناً رغم عدم وعي الصحابة وقتها لتلك النقطة.

- من دروس الصلح:

من أكبر الدروس التي يمكن أن تتعلمها الحركة الإسلامية اليوم هو فن التعامل مع الآخر، والآخر هذا يمثل كل الكيانات والمنظمات والدول الغير مسلمة، والتي قد تعادي الفكرة الإسلامية ككل، فضلاً عن محاربتها، فيجب على المسلمين هنا -خاصة فيما يمرّ بهم من استضعاف غير مسبوق في التاريخ- أن يعترفوا بالواقع المحيط بهم، ويعرفوا حجم عدوهم، وأن عليهم السعي الحثيث تجاه امتلاك حريتهم وقوتهم وسلاحهم، فإن هم فعلوا، فقد فرضوا على العدو احترامهم، وتقدير وجودهم، وأكبر مثال على ذلك في عصرنا هو حركة المقاومة الإسلامية حماس، والتي استطاعت أن تنتزع اعتراف العالم بها، والسعي للتفاوض معها، ويعد هذا اعترافاً من العالم بشرعيتها، فما الذي يجبر هؤلاء على الاعتراف بها في حين أن ما يضمّهم رقعة صغيرة في أرض فلسطين!

يجب على المسلمين هنا -خاصة فيما يمرّ بهم من استضعاف غير مسبوق في التاريخ- أن يعترفوا بالواقع المحيط بهم، ويعرفوا حجم عدوهم، وأن عليهم السعي الحثيث تجاه امتلاك حريتهم وقوتهم وسلاحهم

إنها القوة التي سعت حماس لامتلاكها، وهو الإعداد قدر الاستطاعة والأخذ بالأسباب، فغرس الله عز وجل الرعب في قلب الصهاينة، رغم امتلاكهم العدة والعتاد والعدد لسحق حماس، لكنّها سنن الله حين يتّبعها المسلم.

ولذلك كان صلح الحديبية فتحاً قريباً مبيناً، لِمَ؟ لأن المسلمين صار لهم دولة، وجيش، وقوة يضع العدو لها ألف اعتبار، حتى ما اعتبره المسلمون دنيّة في الاتفاق، حتى ثار بعض الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم جميعاً حين أقرّ النبي بنداً في المعاهدة بأن من يسلم من قريش فيردّه النبي، ومن يكفر من المسلمين فلا تردّه قريش، حتى ذلك البند رغم ضعفه الظاهري، إلا أنه كان دافعاً لقريش لأن تنقضه هي نفسها فيما بعد، حين مثل المسلمون خطراً في طريق تجارتهم المعهود.

إن طريق الجهاد وتبليغ كلمة الله شاقٌ وطويل، ويجب فيه الصبر والتعلم، فليس أحقّ من المسلمين من الحكمة وهي ضالّة المؤمن، وعدونا لا يكفّ عن التخطيط، فلِمَ نحجم نحن عنه ونحن أصحاب القضية العادلة؟

إن الإسلام لا ينقصه منطق ولا حجّة، إنما ينقصه رجال يعملون له، وفي سبيله ليل نهار، يبتغون فيه وجه الله تعالى، حتى يرفع الله عن الأمة تلك الكبوة، فتسعد ويسعد بها العالم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة مصرية، مهتمة بالشأن الإسلامي العام، حاصلة على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة، وكاتبة في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية، لها العديد من المؤلفات المنشورة، مثل: المنهاج في الدروس المسجدية للنساء، معالم على طريق التمكين الحضاري، وأبجديات الثورة الحضارية وغيرها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …