سُنن الله وقضية المنهج.. قراءة مختلفة لأزمة حائرة!

الرئيسية » بصائر الفكر » سُنن الله وقضية المنهج.. قراءة مختلفة لأزمة حائرة!
quran3

الإسلام كلٌّ متكامل. وبالتالي فإن الشريعة الإسلامية كلٌّ متكامل، وهذه عقيدة ينبغي أن نؤمن بها، وتتضمن اليقين بأن الشريعة لها الشمول والعموم والصلاحية لكل زمان ومكان، وهي جزء من إيماننا بالله عز وجل على ملَّة الإسلام.

والشريعة هي المنهاج الذي اختاره الله تعالى للمسلم؛ لكي يحيا به حياته، وفيها تصوراته عن نفسه، ودوره في هذه الحياة وما بعد الدنيا. وهي التي تنظِّم علاقته بذاته، وبالآخرين، والأهم علاقته بربه .

ويمكن للإنسان مخالفة #الشريعة؛ لأنها قوانين إلهية، منح الله تعالى إمكانية الاختيار فيها للبشر، بعكس القوانين الربانية التي تحكم الخلق وتُوازِنه، لضمان استمراريته إلى أن يشاء الله تعالى وفق ما أرادت حكمته وإرادته، وهي لا حكم لنا ولا لأي مخلوق فيها.. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [سُورة "فُصِّلَتْ"، الآية:11].

وفي الشريعة لا يجوز إطلاقًا مشاركة رب العزة سبحانه في حقه الذي أفرده لنفسه كما في القرآن الكريم، بمعاقبة عباده على مخالفتها.. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [سُورة "الغاشية"، الآية:26]، وغير ذلك الكثير مما حوى ذلك المعنى في القرآن الكريم. وهنا نقف وقفة مهمة لها ما سيتلوها في هذا الموضع، وهو أن الله تعالى لم يُقيِّد زمنيًّا قضية حساب الظالمين أو نصرة المؤمنين، فقد يكون ذلك في الدنيا، أو يؤجَّل للآخرة، لكن الثابت، إطلاق حكم وقف الحساب على الله تعالى فحسب.

المهم أو المراد إيصاله في هذا الموضع، هو أنه لا يجوز للإنسان الأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها، أو إدخال ما ليس فيها عليها، وهو يتحرك في إطار كونه "مسلمًا"، ويقول إنه يمثل هذا الدين، ومشروعه الحضاري.

لا يجوز للإنسان الأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها، أو إدخال ما ليس فيها عليها، وهو يتحرك في إطار كونه "مسلمًا"، ويقول إنه يمثل هذا الدين، ومشروعه الحضاري

فمع أحقية الإنسان في الاختيار، وهذا بدوره بمشيئة الله فقط، لا الإنسان، فإنه لا يجوز للإنسان القول بأن هذا الأمر أو السلوك أو الفعل من الإسلام، وهو ليس من الإسلام، أو ترك بعض الشريعة والأخذ بالبعض الآخر وفق الهوى.

فما هو من الإسلام هو من الإسلام، فقط أنت لا تعمل به، وتكون عاصياً، لكن لا تؤسس قاعدة ذمَّ اللهُ تعالى فيها بشدة في القرآن الكريم، وهي الإيمان ببعض الكتاب وترك البعض الآخر.

يقول تعالى في سُورة "البقرة": {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنكُم من دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}، وفي سُورة "النساء"، يقول رب العزة سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150)}.

وعندما يتحرك الإنسان المسلم في هذه الحياة، ويعلن أنه يمثل الإسلام تمثيلاً صحيحًا، فإنه يُحظَر عليه تمامًا فكرة الانتقائية، ويخرج عن منهج الإسلام تمامًا أن تتحرك بوسائل معينة تخالف الشريعة، ولا تتفق معها، في سبيل تحقيق هدف نبيل يتفق مع مفردات المشروع الإسلامي كما تحددها الشريعة، هنا يرفع الله تعالى سُنَن نصره، أو إسناده.

عندما يتحرك الإنسان المسلم في هذه الحياة، ويعلن أنه يمثل الإسلام تمثيلاً صحيحًا، فإنه يُحظَر عليه تمامًا فكرة الانتقائية، ويخرج عن منهج الإسلام تمامًا أن تتحرك بوسائل معينة تخالف الشريعة، ولا تتفق معها، في سبيل تحقيق هدف نبيل يتفق مع مفردات المشروع الإسلامي

فهذه المخالفة الجسيمة، تحمل انتهاكات عدة للشريعة، والتي منها ما يصل لمستوى الكبائر، بل نوع من الكُفْر بالمعنى الموضوعي.

ففي هذا -أولاً- إدخال ما ليس من الدين في الدين، وما ليس من الشريعة في الشريعة، وبالتالي نقل صورة خاطئة شديدة التشويش للآخر غير المسلم في كل مكان، وبالتالي أيضًا فهي تعرقل جهود الدعوة.

والدعوة إلى الله تعالى ودينه، هي أهم غاية أمام المسلم، وكل ما دون ذلك، هو أدوات لخدمة هذا الهدف، بما في ذلك الجماعات والجمعيات، بل الدولة الإسلامية ذاتها لو كانت قائمة ، كل ذلك مجرد أدوات؛ لخدمة هدف نشر دين الله تعالى.

المؤسف أن البعض زاد على ذلك، وهو ما أدى لخسائر جمَّة لمنجزات قرون طويلة من المراكمة الحضارية والدعوة في أنحاء الأرض، خطيئة كبرى؛ زاد التألِّي على الله تعالى، ومعاتبته، بل تجاوز الأدب في الخطاب معه فيما يتعلق بتأخُّر النصر، بينما هذه السُّنَن الربانية لا تُنزَّل إلا بقَدَر، وبشروط معينة، أهمها الالتزام بقواعد الشريعة بالكامل، لا أن تقوم بمخالفات، وتنسبها إلى الشريعة، ثم تطلب من الله تعالى أن ينصرك.

فهذا تدخُّل في حكمته -والعياذ بالله- ولو نصرك الله تعالى على ما تخالفه وتخالف شريعته فيه؛ فهذا يعني أن الله تعالى –حاشاه– يناقض ذاته وأحكامه.

على سبيل المثال، نهى الله عن الكذب؛ فكيف ينصر من يكذب، وباسم الدين! نهى عن الضلال.. نهى عن المسِّ بحقوق الخلق إلا بحق، ونهى عن كذا وكذا، بينما تجد مَن يعلم بأن ذلك منافٍ لأحكام الله تعالى، ويقوم به، بل يبرره لنفسه ولآخرين لمجرد هوىً لديه، أو أنهم من نفس الجماعة أو التنظيم أو كذا، وهذا أكبر خطر على المشروع الإسلامي، وأكبر فتنة عرفتها الأمة، ثم يطلب من الله السداد (!!).

كما أن لدينا في ديننا مبدأ مهماً جدًّا، وهو "عرفت فالزم"، فالمسلم مُحاسَب أكثر من غيره بما علمه من الحق، هذا معروف وبديهي.

بل إننا مُطالَبون بالعدل حتى مع خصومنا وأعدائنا، بل مع أعداء الله والدين.. يقول تعالى في سُورة "المائدة": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}.

وذلك السلوك من البعض –وصاروا كُثرًا للأسف، وفي شريحة الشباب على وجه الخصوص، والتي هي من المفترض أن تقود وتكون في الطليعة– اعتراض على قضاء الله تعالى وقدره، بينما رب العزة قد يرى تأخير هذا الأمر، وتأخير عقاب الظالم إلى الآخرة؛ لأسباب وحكمة لا نعلمها.

والتاريخ الإنساني مليء بنماذج لظالمين أجَّل الله تعالى لهم، ومنهم مَن مات على فراشه، مثل فرانشيسكو في إسبانيا، وستالين في الاتحاد السوفييتي من قبل.

وعبارة {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، وردت في القرآن الكريم مرتَيْن، في سُورة "الأعراف"، الآية (133)، وفي سُورة "القلم"، الآية (45)، وفي سُورة "إبراهيم"، يقول تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42)}.

كذلك في هذا تصور طفولي ساذج، يفترض أن الله تعالى طوع أمرنا، وأن أمورنا الجزئية هي كُلِّيَّات الكون، وأنه "يجب" على الله تعالى الاستجابة لنا "بالصورة الفلانية" في "الوقت الفلاني"، بينما ما نحن إلا مِن مخلوقات الرحمن الضعيفة، ووجودنا في الدنيا طارئ، وأمورنا هذه صغيرة للغاية أمام عظيم وجسيم مهام تدبير الكون، وفي الأصل؛ فلو كفر الناس جميعًا، فلن يضروا الله تعالى ولا دينه شيئًا، فكوكب الأرض ذرة لا تُرى ولا تُقاس أمام الكون العظيم بما فيه السماوات والأرض والملائكة، وكلها تعبد الله تعالى وتسبح بحمده، لا تفتر لحظة.

كما أن حكمة الله تعالى وعظمته، أوسع وأكبر من ذلك بما لا يحده قياس؛ لكي ننظر للأمور بقدْر تقديرنا ونظرتنا نحن لها، فالله يقيِّم وينظر ويفعل بمنظور مختلف، وحكمته في ذلك بالغة.

لذلك، فإن مساعي بعض منظِّري الحركة الإسلامية لتفسير أسباب تأخُّر سُنَن النصر، خاطئة في مرتكزها أو منطلقها الفكري؛ حيث إنها تتجاوز عن مفاهيم كثيرة وردت في القرآن الكريم، وفي الممارسة النبوية، مثل سُنَن التمحيص والابتلاء والاختبار، وغير ذلك، وتنحو إلى بيوريتانية وافتراض الأفضلية في أنفسهم، وهو كله أمور منهيٌّ عنها تمامًا في شريعتنا الإسلامية.

وعليه، فإن المفترض أن يكون أول خطوة لدراسة الأزمات الحالية التي يمر بها المسلمون بشكل عام، والحركة الإسلامية بشكل خاص -هو البحث في نقطة مدى التزامنا بالمنهج؛ لكي يوفي الله تعالى وعده بتطبيق سُنَن النصر.

فإن المفترض أن يكون أول خطوة لدراسة الأزمات الحالية التي يمر بها المسلمون بشكل عام، والحركة الإسلامية بشكل خاص -هو البحث في نقطة مدى التزامنا بالمنهج؛ لكي يوفي الله تعالى وعده بتطبيق سُنَن النصر

ومع ذلك فإن الشريعة فيها –كما تقدَّم– الكثير للغاية فيما يخص مسألة تأخير النصر حتى على مَن هم التزموا المنهج؛ لحكمة إلهية بالغة، أبان بعضها في القرآن الكريم، كالتمحيص وتنقية الصفوف والنفوس.. يقول تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [سُورة "آل عمران"، الآية:141].

وفي حقيقة الأمر فإن قضية أخطاء المنهج واسعة، وتتطلب دراسات وبحوث شرعية متعددة الاتجاهات، فقهية وتربوية، مثل البحث في أحكام الاستثناءات وتبيان خطأ اعتمادها كقواعد في الأوقات العادية، وتدقيق اشتراطات تطبيقها.

ولكن، ولعل أول الخطوات المطلوب اتخاذها هو حقيقة مفاهيمية وأساسية عقيدية غائبة عن الكثيرين داخل الحركة الإسلامية، وهي أن المصدر الشرعي الوحيد للإسلام، سواء الأحكام الخاصة بالأوقات العادية، أو الاستثنائية، هو القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، وخلاف ذلك فإنما هو اجتهادات لا تؤسس إلزامًا عقيديًّا على المسلمين.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …