ثمّة توجّه لتيارات إسلامية يحمّل الشعوب مسؤولية غياب القيم وفساد المجتمعات، واصفاً إياها بأوصاف الجهل والعصيان والتقصير والإهمال، والاهتمام بالمصالح المادية على حساب الدين والدعوة إليه.
لو اقتصر هذا التيار على وصف الشعوب بهذه الأوصاف لهان الخطب، ولكنه ينظِّر -بكل ما أوتي من حجّة- لبيان براءة العلماء والأمراء من مسؤولية الفساد الضارب على صدر المجتمعات هنا وهناك!
لستُ معنياً بتبرئة الشعوب الإسلامية من الفساد والتقاعص عن واجب الدعوة والإصلاح، ففساد الشعوب على وجه العموم لا يخفى على ذوي الأبصار، بيد أنه ذلك لا يعني أن العلماء بريئون من المسؤولية عن فساد الشعوب إنْ هم قصّروا في تبليغ الرسالة وأدائها بكل شجاعة وإقدام، وأن الأمراء يتحمّلون إثم فساد شعوبهم إنْ هم عرقلوا عملية الإصلاح وضيّقوا على المصلحين، فكيف إنْ كانوا سعاةً ودعاةً إلى الفساد؟! لا شك أن إثمهم حينئذ يكون مضاعفاً.
ويجلّي النبيُّ صلى الله عليه وسلم لنا حقيقة الأمر، واضعاً يده على موطن الداء، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته".. وكلمة (الإمام) إذا أُطلقت -في غير سياق الحديث عن الصلاة- فإنه يُراد بها الحاكم الذي استوفى الشروط التي تُكسبه الشرعية والطاعة.. إلا أن المسؤولية التي يتحمّلها الإمام الشرعي، تتمدّد لتشمل كل حاكم على وجه الأرض مسلماً كان أو كافراً، شرعياً أو غير شرعي، فإن الحاكم هو الذي يأمر وينهى، ويملك قوة العسكر والقانون والمال والإعلام، وبالتالي فإن الحكام مكلَّفون بأن يكونوا قدوةً لشعوبهم أولاً - ولذلك جعل كثير من أهل العلم من شروط الإمامة أن لا يكون الإمام فاسقاً مجاهراً بالمعصية-، ثم بأن يحرِّضوا العلماء والإعلام وجميع أجهزة الدولة ومؤسساتها على الصلاح والإصلاح والعبادة، وبأن يحكِّموا شرع الله، ويقيموا حدوده، ويقودوا الدعوة إلى العالَم أجمع.. ولله درُّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حينما قال: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
إن الحكام مكلَّفون بأن يكونوا قدوةً لشعوبهم أولاً ثم بأن يحرِّضوا العلماء والإعلام وجميع أجهزة الدولة ومؤسساتها على الصلاح والإصلاح والعبادة، وبأن يحكِّموا شرع الله، ويقيموا حدوده، ويقودوا الدعوة إلى العالَم أجمع
أما الحديث الذي يستدل به البعض وينسبونه للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "كيفما تكونوا يولَّ عليكم" فحديث باطل، "والواقع يكذّبه، فإن التاريخ حدثنا عن تولي حكام أخيار بعد حكام أشرار والشعب هو هو" كما قال الشيخ الألباني رحمه الله في "السلسلة الضعيفة".
وإذا أردت المزيد؛ فاقرأ إن شئت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى حكام الكفر وعظمائهم، حيث كان يخبرهم أنهم إن لم يسلموا فإنهم يتحمّلون إثم أقوامهم.
قال أحد العلماء المعاصرين: "العلماء دائماً يُتَّهمون بأنهم لم يفعلوا شيئاً.. يا أخي هل أنا نبي أو رسول أو قائد دولة حتى أستطيع قيادة هؤلاء؟" اهـ.
إن الأنبياء أيضاً لا يملكون قيادة الأمم إلا بتوفيق الله وتقديره، وفي الحديث: "عُرضَتْ عَلَيَّ الأمم؛ فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد"، ولكنْ ألستم أنتم - يا علماءنا الأفاضل - الذين تطرقون مسامعنا صباح مساء بحديث تنسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: "العلماء ورثة الأنبياء"، والأنبياء كانوا يبلّغون الرسالة ويقولون كلمة الحق ولو كلّفهم ذلك أرواحهم، ويقودون السرايا للجهاد في سبيل الله، لا تُقعدهم الدنيا وملذّاتها عن التعفّر بغبار المعارك، ولا تخيفهم قعقعات الحروب وتطاير الرؤوس فيها وسيلان الدماء عن المشاركة في هذا الشرف العظيم.
إن أكثر من يوصَفون اليوم بالعلماء جبناء، يسوّغون للطغاة ظلمهم وطغيانهم، ويسكتون عن قول كلمة حق عند سلطان جائر خشيةَ أن ينالوا لقب (سيد الشهداء)
إن أكثر من يوصَفون اليوم بالعلماء جبناء، يسوّغون للطغاة ظلمهم وطغيانهم، ويسكتون عن قول كلمة حق عند سلطان جائر خشيةَ أن ينالوا لقب (سيد الشهداء)، في حين أنك تراهم ذوي ألسنة حداد شداد على الشعوب التي لا حول لها ولا قوة.
خلاصة الأمر؛ "ظَهَرَ الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس"، والناس لفظ عام يشمل عامتهم وعلماءهم وأمراءهم، وهذا هو واقع الحال حيث عمّ الفساد الجميع - إلا من رحم الله - ودخل كافّتهم في دائرة الإثم والعقاب.. إلا أن مسؤولية هذا الفساد تتدرّج مراتبها لتبدأ بالأمراء، ثم العلماء، ثم العامة.. والله تعالى أعلم.