ليس لك من الأمر شيء

الرئيسية » بأقلامكم » ليس لك من الأمر شيء
muslim- praying

كان يدعوهم ويدعو لهم ليل نهار؛ بأن يمنّ الله عليهم بنور الهداية، كيف لا وهم أهله الذين تربى في كنفهم، وسلك طريق الانحراف التي سلكوها، وعرفها بكل ما فيها من شهوات أورثته حلاوة مؤقتة، ثم استحالت إلى نار تحرق فؤاده الضعيف، وإلى سياط تجلد ضميره ندماً وحسرةً على ما واقع من معصية الرب تبارك وتعالى.

مرَّت عليه سنون -قبل أن يتوب- وهو يعاني من شقوة المعصية، ويقاسي ظلمتها المضنية، تلاحقه آيات الله تعالى بين فينة وأخرى، يفتح التلفاز فيفجؤه تالٍ لقول الله تعالى: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً. ونحشره يوم القيامة أعمى"، فيقول بينه وبين نفسه: متى أموت وأرتاح من هذه الحياة البئيسة؟ حتى إذا ما أدار المؤشر إلى قناة تبث الأفلام الفاسدة؛ تفاجأ بأن القناة تبث آيات من القرآن الكريم بسبب وفاة أحد الأمراء (!)، وإذا بالقارئ يصدمه بقوله تعالى: "واتَّقوا يوماً تُرجَعون فيه إلى الله ثمّ تُوَفَّى كُلّ نفس ما كَسَبَتْ وهُم لا يُظْلَمون"؛ فيقول: ربّ لا تُمتني قبل أن أتوب… وما إن تمضي لحظات حتى يعود إلى حياة اللهو والإسراف..

صحبة السوء كانت أهم اسباب دوام انحرافه - وصحبة السوء ليست مقتصرة على الصغار، بل إن قادة وعلماء كباراً أضلتهم صحبة السوء- لكن لحكمة أرادها الله سبحانه؛ كانت هذه الصحبة هي سبب هدايته، فقد منّ الله تعالى على أعز صديق له بالهداية، ولم ييأس صديقُه منه مدة سنة كاملة وهو يحبِّب إليه الإيمان وييسِّر له سُبُل الهداية، حتى أعانه الله عليه؛ فأصبح من الرجال الذين تعلقت قلوبهم في المساجد.

منذ ذلك الحين وحزنٌ عميقٌ يلفّه، إذ سخر منه أهلُه الذين أحبّهم من كل قلبه، ووقفوا بقوة في طريق هدايته، إلا أن الله تعالى الذي مكّن الإيمان من قلبه ثبّته على الطريق، ووقف بإيمانه المكين يرفض أن يتزحزح قيد أنملة.. ولكنه - في الوقت نفسه - يعزّ عليه أن يسلك الطريق وحده، ويفطّر فؤاده رؤية والديه وأشقائه سادرين في غيّهم، لا تؤثر فيهم عبارات الترغيب والترهيب.. (يبدو أن الله طبع على قلوبهم).. كذا كان يقول بينه وبين نفسه.

لم تفارقه مرارة الألم وضراوة الحزن عليهم، ومكث صابراً على سخريتهم واستهزائهم به أعواماً عديدة، يدعو لهم بإشفاق، ويبكي من أجلهم بحرارة، ويحرمه التفكير في وسائل هدايتهم من النوم والدعة... حتى إذا ما نفد صبره، ولم يعُدْ يُطيق غمزهم وهزمهم ولمزهم؛ تبدّل دعاؤه لهم دعاءً عليهم، وطفق يناجي ربَّه أن يريحَه منهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر..

مكث على هذه الحال عدة شهور.. لا يطيق رؤيتهم، ولا يلهج لسانه إلا بلعنهم والدعاء عليهم، حتى جاء ذلك اليوم الذي صلّى فيه بجانب شيخ كبير زاده العلم هيبةً ووقاراً، وزانته الحكمة بنورها وبهائها.. صُعق هذا الشيخ وهو يسمع هذا الفتى يدعو الله في صلاته بخشوع على والديه وأشقائه بأن يأخذهم ويعذبهم عذاباً أليما..

بعد انقضاء الصلاة؛ نظر الشيخ في عيني الفتى وقد اغرورقتا بالدموع.. وضع كفَّه فوق كفِّه وقال له: يا بني! ربُّنا الكريم يقول: "ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوبَ عليهم أو يُعذَّبَهم فإنّهم ظالمون"، ثم مضى تاركاً الفتى ويكأنه ألقاه في بحر من الذهول!!
سبحان الله! قالها الفتى بينه وبين نفسه.. من أين جاء هذا الشيخ الكبير؟ وهل يعرف قصتي؟ وكيف أجرى الله تعالى على لسانه هذه الآية التي شعرتُ أنها إنما نزلت بسببي أو عليّ؟ أسئلة لم يجد لها جواباً شافياً.. أخذ يبحث عن هذه الآية في كتاب الله تعالى، حتى وجدها في سورة آل عمران.. قرأها مرات ومرات، وامتزج المصحف بعَبَراته الحرّى المتدفقة.. رجعت به الذاكرة إلى آيات أخرى غيرها.. "ليسَ عليك هُداهم ولكن الله يهدي من يشاء"، "إنك لا تهدي من أحببتَ ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين"، ".. فلا تَذهَبْ نفسُكَ عليهم حَسَرات"..

أطرق طويلاً.. مضى به الفكر إلى بلاد الدنيا كلها، واستعرض أحوال الناس فيها وبين عينيه قوله تعالى: "وما أكثر الناس ولو حرصتَ بمؤمنين".. حملَ همَّ هؤلاء على كاهليه، وتابع السير في الطريق.. يدعو بالهداية لأهله وللضالين جميعاً، ويدعو أهله ومن قدر على إيصال الدعوة إليهم من الضالين جميعاً، من غير أن يُذهب نفسه عليهم حسرات.. شعاره من أول الطريق إلى آخره: "وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب وصحفي في جريدة "السبيل" الأردنية، باحث في شؤون الحركات الإسلامية.

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …