المقاومة اسم جامع لكل أنواع الممانعة للعدو المحتل أو العدو المعتدي، وليست المقاومة مصطلحاً يعني فقط النضال المسلح.
فالعمل المسلح ضد العدو مقاومة، والكلمة ضده مقاومة، والمسيرة والوقفة ضده مقاومة، والمقاطعة له مقاومة، وغيرها من أنواع المقاومة السلمية.
ولقد سارت المقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني في مسارات المقاومة كلها، غير أنها غلب عليها في العقود الأخيرة طابع المقاومة المسلحة، مع تعدد كتائب المقاومة وتعدد عملياتها واشتباكاتها في حروب متتالية مع الكيان الصهيوني.
وتمثلت مقاومتها الأخرى في أوضح صورها في مسيراتها في القطاع وغزة ضد القرارات الصهيونية المجحفة وكذلك ضد اعتداءاته المتكررة على الناس والأرض والمقدسات.
في خارج فلسطين؛ في البلاد العربية والإسلامية، اقتصرت فاعليات المقاومة على الحراك الشعبي في تظاهرات ومسيرات ووقفات ومهرجانات من أجل دعم القضية الفلسطينية ودعم مقاومتها المسلحة والسلمية كذلك.
وإني لأذكر يوما، في ظل اعتداء كبير من القوات الصهيونية على الفلسطينيين في الضفة وغزة لقمع انتفاضة فلسطينية ثائرة حينها. أذكر يوم أن خرج الدكتور محمود الزهار القيادي بحركة حماس على إذاعة البي بي سي، وقال ما معناه: نريد من الشعوب العربية والإسلامية أن تخرج في مظاهرات ومسيرات حاشدة لدعم إخوانهم المقاومين والمرابطين والصامدين.
وقال معقبا: أنتم لا تدرون ما تفعله مسيراتكم ومظاهراتكم هذه في نفوس إخوانكم وفي عزمهم.
وأضيف إلى ما قاله الدكتور الزهار: ولا يدرون كذلك ما تفعله مسيراتهم ومظاهراتهم في نفوس الأعداء وفي تثبيط عزائمهم، وفي الضغط عليهم وعلى حكوماتهم وعلى داعميهم من أجل وقف الاعتداء.
وإني لأذكر يوما، عندما أقدم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على قصف بغداد في عملية عسكرية كبيرة سميت بـ(ثعلب الصحرء) عام 1998م، فأثار القصف طلبة الجامعات المصرية، فخرجوا في تظاهرات حاشدة قوية صاخبة، فلم تستمر العملية العسكرية هذه حينها إلا أربعة أيام، وقيل فيما بعد أن التظاهرات الحاشدة كانت سبباً في إيقاف العملية.
وهذا الكلام، وإن كان غير مقطوع به، إلا أنه ليس مستبعدا ولا مستحيلا، بل إن العارف بأهمية التظاهرات والمسيرات وأثر فعلها، لينظر إلى ذلك نظرة التصديق وعدم الاندهاش.
وكم من ثورات سلمية هي عبارة عن مسيرات ومظاهرات قد نجحت إلى أبعد مدى في تحقيق غاياتها، فها هي الثورة البرتقالية في أوكرانيا (2004م_ 2005م).
وها هي ثورة الياسمين في تونس (2011م)، وها هي ثورة يناير في مصر (2011م).
ولن ينسى التاريخ أبدا (ثورة الملح) أو (مسيرة الملح) في الهند في عام 1930م، بقيادة المهاتما غاندي، وتطبيقا لفلسفته في (حملات اللاعنف)، وأثرها في دحر الاحتلال البريطاني للهند.
كم من ثورات سلمية هي عبارة عن مسيرات ومظاهرات قد نجحت إلى أبعد مدى في تحقيق غاياتها
وفي فلسطين، لن ننسى أبدا معركة البوابات الإلكترونية الصهيونية بالمسجد الأقصى، حينما أغلقت السلطات الصهيونية المسجد ومداخل البلدة القديمة ومنعت إقامة صلاة الجمعة في سابقة منذ احتلال القدس عام 1967.
وبعد رفض شعبي ورسمي فلسطيني لهذا الإجراء وتظاهرات حاشدة على أبواب الأقصى، مع تضامن عربي وإسلامي؛ اضطرت قوات الاحتلال الإسرائيلي للتراجع عن فكرة البوابات الإلكترونية.
وقد جاءت فكرة مسيرات العودة، ويا لها من فكرة، ويا لها من مسيرات. فلا أظن أن شيئاً أحدث مؤخراً اضطراباً وحراكاً في القضية الفلسطينية مثلما فعلت مسيرات العودة هذه.
فمن ناحية هي تفعيل لفكرة المقاومة السلمية جنباً إلى جنب مع المقاومة المسلحة.
كما أنها عودة بالحراك الفلسطيني إلى حاضنته الشعبية الكبيرة، وتجاوز حدود الحركات والأحزاب والجماعات. بعد أن كادت القضية أن تحسب برمتها على الحركات وكتائبها، في ظل غياب شبه تام من عموم الفلسطينين عنها، مع انشغالهم بهمومهم وقضاياهم الحياتية.
لا أظن أن شيئاً أحدث مؤخراً اضطراباً وحراكاً في القضية الفلسطينية مثلما فعلت مسيرات العودة هذه
كما أن مسيرات العودة ليست مجرد تفعيل لفكرة المقاومة السلمية، بل هي أكبر تفعيل لها.
فعندما تخرج المسيرات الحاشدة إلى الحدود بين قطاع غزة وبين الكيان الاستيطاني الصهيوني، وتطالب هذه الحشود الغفيرة بحقها في العودة إلى قراها ومدنها داخل هذه الحدود الجائرة، فتخرج القوات الصهيونية مذعورة تقصف وتقنص، ويشاهد العالم كله ذلك، ليهتز ضميره الميت، ويرى بعينية قضية عادلة، لشعب مهجّر من أرضه، على يد عصابات جُمعت من كل أنحاء العالم، فهذه هي عبقرية الحراك وعبقرية الفكرة.
إن العدو الصهيوني في ذعر كبير من مسيرات العودة وما تمثله، وإنه ليحاول بشتى الطرق الضغط على حركات المقاومة من أجل وقف هذه المسيرات وهذا الحراك. وحتى اللحظة، تقف حركات المقاومة صامدة ثابتة، فترفض أن تمنع الناس عن حقهم في التظاهر من أجل قضيتهم وحقوقهم.
العدو الصهيوني في ذعر كبير من مسيرات العودة وما تمثله، وإنه ليحاول بشتى الطرق الضغط على حركات المقاومة من أجل وقف هذه المسيرات وهذا الحراك. وحتى اللحظة، تقف حركات المقاومة صامدة ثابتة، فترفض أن تمنع الناس عن حقهم في التظاهر من أجل قضيتهم وحقوقهم
ولهذا فالضغط على حركات المقاومة بسبب مسيرات العودة كبير جداً، وها هي القوات الصهيونية تقصف مواقع المقاومة في كل يوم، فيستشهد المقاومون والمجاهدون، غير أن العزيمة لا تلين والصبر لا ينفد والهامات لا تنحني.
ولقد حاولت أطراف عربية وإقليمية الضغط على المقاومة من أجل إنهاء هذه المسيرات التي باتت تقض مضاجع الصهاينة، غير أن حركات المقاومة ما زالت ترفض إنهاء المسيرات، ويبدو أنها ما زالت تفاوض بها، وحسناً تفعل، فإما أن تصل هذه المسيرات لأبعد مدى ممكن، وإما أن يكون المقابل في سبيل إنهائها مقابلاً كبيراً مستحقاً، وهكذا تكون الحسابات، وهكذا يكون التفاوض، ومن الخبل أن تذهب كل الدماء التي سالت في هذه المسيرات هباء.
لكن ليس مستبعداً أن تقوم القوات الصهيونية بعملية عسكرية كبيرة في غزة إن هي عجزت عن إنهاء هذه المسيرات وفاعلياتها بأي طريقة، بل إن هذه العملية العسكرية باتت وشيكة، وإني لأظنها عملية قد أصبحت حتمية في ظل ما يبدو أنه تعنت من الجانب الصهيوني في دفع المقابل المناسب، مع إصرار المقاومة على أن يكون المقابل مناسباً.
ولهذا على حركات المقاومة أن تكون أكثر صبراً وثباتاً، فإن النصر صبر ساعة، وإذا ما انتهت القصة بعملية عسكرية كبيرة على غزة، فحينها ستكون الكلمة العليا للمقاومة المسلحة وكتائبها، وحينها ستكون الفرصة لكسر قوات العدو وأسرها، بعون من الله، ودعوات من الصالحين في كل مكان.
على حركات المقاومة أن تكون أكثر صبراً وثباتاً، فإن النصر صبر ساعة، وإذا ما انتهت القصة بعملية عسكرية كبيرة على غزة، فحينها ستكون الكلمة العليا للمقاومة المسلحة وكتائبها
إن مقاومة العدو لا تبد أن تسير في كل اتجاه ممكن، فالمقاومة المسلحة هي الأساس، والمقاومة السلمية لها دور كبير في دعم المقاومة المسلحة وحمايتها، وربما تصل في بعض الأحيان لما لا تصل إليه المقاومة المسلحة. لذا فالقضية بحاجة لهما معا، وفي كلٍ الخير.
ومن قلة العقل والتقدير أن يتهكم على المقاومة السلمية ومسيراتها بعض أبناء الحركات الإسلامية، ويشبهونها بلعب الأطفال، وإنهم ليذكروننا بهؤلاء الذين يتهكمون دائماً على المقاومة المسلحة كذلك، ويشبهونها أيضا بلعب الأطفال، وهم كذلك من أبناء الحركات الإسلامية.