تتميز الأنظمة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، بأكثر من سمة، من أهمها الشمولية، بجانب التداخل وتنوع المحتوى لكل قيمة وممارسة جاء بها الإسلام.
وهذا التداخل والطبيعة المتعددة هو أحد لمحات حكمة الله تعالى البالغة حيث وضع في الشريعة عددًا قليلاً نسبيًّا من القواعد الناظمة، ولكنها شديدة العمومية؛ لأجل تحقيق شرط صلاحية الدين لكل زمان ومكان.
ونقف في هذا الموضع أمام ممارسة، دأبت الأدبيات المرتبطة بالحركة الإسلامية، وبالفكر الإسلامي بشكل عام، على تصنيفها ضمن أركان النظام السياسي في الإسلام، بينما هي من أهم أركان المنظومة الاجتماعية في الأسرة والمجتمع المسلمَيْن، وهي الشورى.
وفي حقيقة الأمر فإن هناك بعض الإشكاليات في تناول الأدبيات الفكرية الإسلامية لهذه القضية.
فربما كانت معركة الإسلام والحكم هي أصعب معارك المشروع الحضاري الإسلامي الوسطي، باعتبار أن الحكم ليس مطلوبًا في حد ذاته، وإنما هو الأداة الأهم لتمكين قيم الشريعة الإسلامية، وإقامة عقيدة التوحيد .
ولكن الأهم، كما يرى كثيرون في أوساط الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية فإن إقامة الحكم الذي يحتكم إلى الإسلام والشريعة الإسلامية إنما أساسه هو ترسيخ القيم الإسلامية على مستوى الفرد والمجتمع، حيث وقتها سوف تتشكل حاضنة مجتمعية ينتج عنها –وفق قوانين العمران والاجتماع السياسي المعروفة– أن تظهر نخبة حاكمة تتبنى القيم الإسلامية، وتحكم بالشريعة، سواء أجاءت بالانتخابات، أو بأية صورة أخرى من صور اختيار الحُكَّام والحكومات.
إقامة الحكم الذي يحتكم إلى الإسلام والشريعة الإسلامية إنما أساسه هو ترسيخ القيم الإسلامية على مستوى الفرد والمجتمع، حيث وقتها سوف تتشكل حاضنة مجتمعية ينتج عنها –وفق قوانين العمران والاجتماع السياسي المعروفة– أن تظهر نخبة حاكمة تتبنى القيم الإسلامية، وتحكم بالشريعة
وبالتالي فإن الشورى هي سلوك وممارسة اجتماعية بالأساس، يمكن تطويرها لأكثر من مجال آخر، مثل الإدارة، ومثل السياسة .
ارتبط الفعل الشوريّ في القرآن الكريم بالأمر السياسي في جماعة المسلمين الأولى، الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" وصحابته رضوان الله تعالى عليهم في دولة المدينة، مرة واحدة خلاف المشهور في الأذهان، وهي المرَّة التي وردت في سُورة "آل عمران"، في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)}.
أما ما جاء في سورة "الشورى"، في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(38)} فهو لا يتعلق بقيمة سياسية، وإنما هو ضمن سياق قرآني عام حول المؤمنين وتعداد سماتهم، مثل ذلك الوارد في مطلع سُورة "المؤمنون".
وثمَّة مرَّة ثانية ورد فيها الفعل الشوريّ في القرآن الكريم في المجال السياسي، ولكن من دون المصطلح المباشر أو أيٍّ من مشتقاته، وبعيدًا عن الشأن الإسلامي، ولكنه ورد في موضع يشير إلى أن مشاورة الرعية من سمات المجتمعات والدول القوية الناجحة.
ففي سُورة "النمل"، خاطبت ملكة سبأ قومها عارضةً عليهم رسالة نبي الله سليمان (عليه السلام)، فقالت لهم كما ورد في القرآن الكريم: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ(32)}، فكان جواب قومها: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ(33)}.
ولكن فعل الشورى في القرآن الكريم ورد -بصيغته المباشرة هذه- في جوانب أسرية واجتماعية، ففي سُورة "البقرة"، يقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [من الآية: 233].
في هذه الآية نجد أن الله تعالى قد دعا إلى الشورى حتى فيما هو يبدو من أبسط الأمور، في أبسط وحدة تكوينية لأي مجتمع، وهي الأسرة حيث دعا إلى التشاور حتى في نقطة فِطام الأطفال الرُّضَّع.
وإننا هنا أمام كثير فائدة في حال تحوُّل الشورى إلى سلوك وممارسة اعتيادية لنا كمسلمين في الممارسة الاجتماعية واليومية، ربما يكون من نافل القول، لكن من المهم تأكيدها.
فالشورى -أولاً- تساعد على حصر مختلف الآراء الموجودة، وبكل تأكيد فإن فاعلية آراء المجموع أكبر من آراء الفرد، على الأقل هي أكثر تنوعًا في طبيعتها، وفي طرائق تعاملها مع مختلف المواقف والمشكلات.
كما أن الشورى تحقق نوعًا من أنواع التوازن في إدارة الموقف داخل الأسرة، وبالتالي مع شيوعها كسمةٍ أو كخصيصة من خصائص المجتمع المسلم فإنها تحقق شكلاً من أشكال الاستقرار، عندما تخفف -لأقل مستوىً ممكن- احتمال نشوب نزاع صلاحية أو صراع آراء.
الشورى تحقق نوعًا من أنواع التوازن في إدارة الموقف داخل الأسرة، وبالتالي مع شيوعها كسمةٍ أو كخصيصة من خصائص المجتمع المسلم فإنها تحقق شكلاً من أشكال الاستقرار
كما أنها أيضًا تساعد على توزيع نطاق المسؤولية؛ فعند وقوع أزمة أو خطأ يتحمل الجميع مسؤولية القرار، ولا يقع على عاتق فرد أو مجموعة صغيرة؛ فتنشأ نزاعات بسب خلاف وجهات النظر حول أسباب المشكلة، ورغبة كل طرف في التنصل منها، أو إلقاء العبء على الأطرف الأخرى.
ومن الثابت عن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أنه كثيرًا ما كان يستشير زوجاته، حتى في أمور الرعيَّة والدين فكان يستشير السيدة عائشة (رضي الله عنها) في شؤون النساء عند نزول حكم شرعي في القرآن الكريم، وقَبِلَ بمشورة زوجته، السيدة أم سَلَمَة (رضي الله عنها)، في أزمة "التمرُّد" اللحظي لبعض الصحابة على شروط صلح الحديبية.
وليس هناك أعظم ولا أهم من أحكام الشريعة، ولا أمر جماعة المسلمين، وفي كليهما أخذ الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بمشورة زوجاته، أمهات المؤمنين.
ويتصل بهذا الأمر سلسلة من القيم الأخرى المهمة لصلاح واستقرار أي مجتمع، مثل حرية إبداء الرأي وفق قواعد الأخلاق والأدب المرعية، مثل احترام الكبير، وآداب النقاش الخاص والعام، وكذلك تعويد الناس على التفكير وتقليب الأمور على مختلف وجوهها، وغير ذلك مما هو في حقيقة الأمر من بديهيات أحوال المجتمعات القوية المتماسكة التي تتقدم يومًا بعد يوم باجتماع آراء أبنائها وتعاونهم.
وتبعًا لذلك فإننا أمام واجب مهم لعلمائنا وقادة الرأي المسلمين؛ حيث إنه ينبغي الاهتمام بوضع منظومة من الأدبيات ذات الطابع التربوي والنفسي، تعمل على تعميق هذه الطبيعة الحيوية لقيمة الشورى، كسلوك وممارسة أسرية ومجتمعية ، وليست سياسية فحسب يتم ذكرها فقط عند مقارنة النظام السياسي الإسلامي، بمنظومة الديمقراطية الغربية.
وتبدأ هذه العملية –تعضيد قيمة الشورى كسلوك وأداة إصلاح مجتمعية– منذ الصِّغَر حيث الأب والأم مُطالبان بأكثر من أمر في هذه الناحية، بين الأخذ بمبدأ الشورى في تربية الأبناء، وبين تربيتهم للأبناء أنفسهم على إبداء رأيهم، والاستجابة لما يرونه ما دام لم يخالف حكمًا أو يرتِّب ضررًا أو ما شابه، وتعويد الأبناء منذ الصِّغَر على استشارة أهل الحل والعقد في الأسرة، وفي جماعة الأقران، والمدرسة، بشأن أي أمرٍ يُعرَض عليهم.