أعمارنا، القيمة الحقيقية لنا في هذا الوجود، بل هي رأس مالنا، لا يغنينا عنها كنوز الدنيا بذهبها وفضتها، وهي الثمن الباهظ الذي ندفعه، فكم منا من يدفعه ثمناً بخساً لأمور لا قيمة لها، وقلة هم الذين يدركون قيمتها، وأحسنوا التعامل معها، فكتب لهم الحياة حتى ما بعد الموت، وإنّ هذا المقال يبلغ من الأهمية أنه جاء وأنا أودّع العقود الثلاثة الأولى من عمري، واستقبل العقد الرابع، جاء المقال في وقت يغفل به الكثيرون منا قيمة السنوات والشهور والأيام -بل والدقائق والثواني- من أعمارنا، لعل به تذكرة فيتدارك من ما زال أمامه سعة من الوقت، ويوليه الآباء وأولياء الأمر من الاهتمام ما يجعلهم يتجنبون تكرار التعثر بعثرات الآخرين وأخطائهم.
إنّ الهزات التي مرت بها أمتنا وأوطاننا تدخلت بشكل كبير في بناء شخصياتنا وتكوين أفكارنا، وتغييب دور المسجد، وتمييع التعليم، وانعدام أو ندرة القدوة في حياتنا زاد الطين بلة، فتجد قسماً من الناس تسللت الهزائم إلى نفسه، فعاش متخبطاً لا هو عربي ولا غربي، ولا مسلم ولا كافر، بضاعته مزجاة، يعيش في الحياة بلا هدف ولا رؤية ولا غاية، يقتات على تقليد الغير، واتباع مناهجهم، وتتبع أثرهم في سبل الحياة، سواء ما يتعلق منها في الدين، أو علم الاجتماع، أو الاقتصاد، أو أي مجال آخر.
وقسم آخر وقع في شرك التسويف والارتقاب والانتظار طويلاً، ولو أنفق جُلّ عمره في هذا الانتظار، لعله يكون يوماً ما ذا أثر، وكأنه العصا السحرية التي تذلل الصعاب وتمهد الطريق، تجده ينتظر بلا حراك أن يكون العلامة الفارقة في تغيير معايير الكون، فبه ينتصر الحق، وتدكُّ عروش الباطل، ويُمَكَّن للإسلام من خلاله في العروش والقلوب، كثير منا ممن عاصر النكبات والهزائم ترواد مخيلته هذه الأحلام، التي هي حقيقة أقرب للوهم والخيال منها للحقيقة، يعايشها صبح مساء، ويقتله الانتظار، وإذا بسنوات العمر تنقضي وتتسرب منه كما يتسرب الماء من بين الأصابع، ومن منا لا يأمل بتغيير الواقع وإدارة كفة الزمن لما يرجو ويأمل؟! شغلتنا أحلامنا وآمالنا في أن يكون للواحد منا بصمته المميزة في الوجود، فيشار له بالبنان، وتكتب عنه صفحات التاريخ والزمان، وأصبح شغلنا الشاغل أن يُخلِّدنا التاريخ في الحياة وبعد الممات، وبانشغالنا هذا -الذي ما كُلفنا به أساساً، ولا كان مقصداً من خلقنا- أضعنا الذي كُلِّفنا فيه، وكان فرضاً عينياً علينا، فتشاغلنا بنوافل الأمر عن فرائضه.
أصبح شغلنا الشاغل أن يُخلِّدنا التاريخ في الحياة وبعد الممات، وبانشغالنا هذا -الذي ما كُلفنا به أساساً، ولا كان مقصداً من خلقنا- أضعنا الذي كُلِّفنا فيه، وكان فرضاً عينياً علينا، فتشاغلنا بنوافل الأمر عن فرائضه
ووقع ذات يوم بين يدي مقال: "القواعد العشر للتعامل مع هواجس تغيير العالم، ورسالة الحياة وثغرة الإصلاح"، أن انفرط قلبي أسى على الضائع من أعمارنا في أوهام نسجتها أحلامنا، ولا أجدها إلا وسيلة للهروب من الواقع المتردي الذي تحياه شعوبنا، ووسيلة لإقناع أنفسنا بأننا نستعد للانطلاق في العمل وقت ما تدق ساعة البدء، وقد تتوقف ساعة العمر، وتأذن شمس حياتنا بالأفول، وما دقت ساعة العمل التي ننتظر! وإن كان هذا نتيجة للواقع الانهزامي الذي نحياه، فهو أيضاً نتيجة للفهم المغلوط -بل بالأصح- لانعدام الفهم من غاية وجودنا وما كلفنا الله به ابتداء.
ومن أول القواعد التي تناولها المقال، والتي سأكتفي بها الآن فهي وحدها إن فهمت على ما أرادها الله كانت بحد ذاتها حياة، قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات، آية:56]، هذه الآية لو تفكرنا بها حق التفكر والتدبر كما يريد الله منها في التعامل مع آياته وسننه في الكون والوجود؛ لانضبطت بوصلة سعينا وتحركنا في الحياة، ولأدرك هذا العبد التائه في الحياة الغاية من خلقه وسر وجوده في هذه المرحلة، ببساطة بليغة ووضوح جلي، الغاية من خلقنا "العبادة"، ويقصد بالعبادة كل ما يحبه الله تعالى ويرتضيه من الأقوال والأعمال الظاهرة منها والباطنة، فمن ذا الذي يتجرأ ليحصر العبادة في شكل واحد من المهمات العظام الجسام كحمل سيف، أو ترأس مجموعة، أو تصدر شاشة، ومن غيرها من الأدوار البرّاقة التي تحمل من المسؤولية ما تؤرق منام الأشراف وتزعزع راحتهم؟! وكأننا لا نكون عابدين لله إلا إذا توجهنا في سعينا المحموم في هذه الحياة إلى حيث يُسلّط النور؛ لنزيد كواهلنا ثقلاً فوق ثقل دون تكليف لنا.
من قال أن العبادة لا تتم إلا في بؤرة تسلط الأضواء، أوليس الأنبياء -وهم صفوة البشرية- بلغوا ما بلغوا إلا بعد أن استخدمهم الله في المهمات التي تتراءى لنا ببساطتها، فيأنفها العبد منا بحجة أنها أقل من قدره، أوليس المسلم إذ سلّم أمره لله أصبحت حياته أنفاسه، دقائق أموره صغيرها وكبيرها جلها تدور في فلك العبودية، أوليست مهمات الحياة بتفاوتها إن هي إلا ثغور يقيم الله العبد منا عليها وقتما شاء، وبالكيفية التي يريد جلّ شأنه وليست بالتي ننتقيها نحن؟!
أوليس المسلم إذ سلّم أمره لله أصبحت حياته أنفاسه، دقائق أموره صغيرها وكبيرها جلها تدور في فلك العبودية، أوليست مهمات الحياة بتفاوتها إن هي إلا ثغور يقيم الله العبد منا عليها وقتما شاء، وبالكيفية التي يريد جلّ شأنه وليست بالتي ننتقيها نحن
أوليست قصة الصحابي الذي جاء يستأذنه بالجهاد فأمره ببر والديه، فكان جهاده في تلك المرحلة بره بوالديه، فقد رُوي أنه: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألك والدان؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) (رواه الترمذي)، فالذي يعجز عن تحقيق العبودية في الصغير، لهو أعجز من تحقيقها في عظام الأمور، فالذي لا تتحقق به العبودية ببر الوالدين، لهو عن برّ أمته وبر قائده أعجز، والذي يعجز عن إماطة الأذى عن الدروب، والقلوب، والإحسان للجار، والزوجة والأهل، لهو عن غيرهم من مهمات أعجز.
إنّ من تمام العبودية أن تلزم نفسك حيث أقامك الله، وفق مراد الله، وتلوذ بباب رجائه، وتدعوه ذليلاً صاغراً أن يقبل منك، ويستخدمك ولا يستبدلك، فلا تنظر للمهمة التي أوقفك بها بعين الاستصغار، بل انظر لعظمة من استخدمك، فكم منا داعبت أفكاره هواجس التغيير، إلا أنه كان عن تغيير نفسه أعجز، فلا من نفسه غيَّر، ولا حفظ الأمانة التي استودعه الله.
لا تنظر للمهمة التي أوقفك بها بعين الاستصغار، بل انظر لعظمة من استخدمك، فكم منا داعبت أفكاره هواجس التغيير، إلا أنه كان عن تغيير نفسه أعجز، فلا من نفسه غيَّر، ولا حفظ الأمانة التي استودعه الله
وهل سادت الفوضى في حياتنا إلا نتيجة خلل في أفهامنا ووظائفنا، كن شعاع نور يضيء بنفسه، يهتدي بك الحيارى خير من أن تنتظر أن تكون الكوكب الساطع الذي ترنو، فيضيع العمر منك هباء، فلا أنت ارتضيت الشعاع، ولا بلغت الشمس، وإن أية مسافة تُقطع إنما بدايتها خطوة واحدة، والعبادة غاية شريفة من أجلها خلق الإنسان، فيكفيه شرفاً أن الله ربه، وهو عبده بغض النظر عن المهمة التي أوكلت إليك، حسب العبد قول نبيه صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) (رواه مسلم).
وأنّ أولئك الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها ما استقام لهم الأمر إلا بعدما استقامت نفوسهم وقلوبهم في محراب العبودية، لا فرق بين قائد وجندي مجاهد يحمل السيف، أو مرابط على الثغور، أو مقيم في المال والأهل والولد، قاموا بحق العبودية في الكلمة، لا يستصغرون شأنها، فراقبوا الله بحركاتهم وسكناتهم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم) (رواه البخاري) ، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [سورة الذاريات، آية:56]، مسيرة حياة من المهد إلى اللحد، فقهوها كما أرادها الله لا كما انتقتها أمزجتهم وأهواؤهم، فاستقامت لهم الدنيا والآخرة، فكم من الخطوات ضلّت السبيل؛ لتفريطنا بما به أُمرنا وكُلفنا، بحجة أننا نعدّ العدة للمهمة العظمى، وأية مهمة أعظم من أن تكون عبداً مستقيماً ملتزماً كما أراده الله منك، فانقضت أعمارنا وما حوسبنا إلا على ما كُلفنا به، لا على ما أملنا ورجونا!