مِن أهم القواعد الأولية التي يتم تدريسها لطالبي العلم الشرعي في العلوم القرآنية، هو قاعدة أن القرآن الكريم حمَّال أوجه.
وتعني هذه القاعدة أن آيات القرآن الكريم الـ(6236)، ليست كلها تحمل معانٍ ذات مدلول مُحدَّد، ويقول بعض علماء السلف إن الآيات قطعية الدلالة في القرآن الكريم، فقط بضع ومائتا آية، ومنها آيات الزواج والمواريث.
وشاءت حكمة الله تعالى ذلك لأسباب عديدة، منها: إكساب نصوص القرآن الكريم، وبالتالي أحكام الشريعة التي تضمنها، وهو المصدر الأول والأساس لها، لصفات العموم أو التعميم، وبالتالي الديمومة، ومن ثَمَّ الصلاحية لكل زمان ومكان.
كذلك استعمل اللهُ عز وجل، قواعد الإقناع العقلي في القرآن الكريم، وكان يستطيع أن يأمرنا فنتمثل، بل أكد ذلك حتى في العقيدة نفسها: التوحيد؛ حيث ساق سبحانه الكثير من الأدلة العقلية في نصوص القرآن الكريم، التي تقود إلى حقيقة الإيمان بوجود الخالق الواحد الأحد الذي لا شريك له.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذه المقدمة مهمة في صدد الحديث الذي نود الخوض فيه في هذا الموضع، وهو مشكلة حاصلة في طريقة تعاطي المسلمين بشكل عام، وشريحة من العلماء، مع النص القرآني، ومع الحكم الشرعي فيه.
والمشكلة التي نقصدها في هذا الموضع هي الجمود والاجتزاء في التعامل مع النص القرآني، ومع القواعد الشرعية.
وفي البداية، وبالدليل الشرعي كما في القرآن الكريم ذاته، يجب أن نفهم أن أي أمر شرعي، لم يرد بإطلاقه، حيث كل الأوامر الشرعية، لها قواعد ناظمة، تبدأ بوضع ضوابط، بل وقيود في بعض الأحيان، عند التنفيذ .
وفي بعض الحالات -كما أقر علماء السلف المتقدمون والمتأخرون- يتم تعطيل الحكم الشرعي –وليس إسقاطه أو إلغاءه– إذا ما تعارض تنفيذ قاعدة مع قاعدة أخرى، فيتم إعلاء الجانب المتعلق بإيقاع المصلحة الأهم، أو تجنُّب الضرر الأكبر وفق الحالات الأربع التي ذكرها ابن القيم وابن تيمية وخلافهما من علماء المسلمين في هذا الصدد.
في بعض الحالات -كما أقر علماء السلف المتقدمون والمتأخرون- يتم تعطيل الحكم الشرعي –وليس إسقاطه أو إلغاءه– إذا ما تعارض تنفيذ قاعدة مع قاعدة أخرى، فيتم إعلاء الجانب المتعلق بإيقاع المصلحة الأهم، أو تجنُّب الضرر الأكبر
وهذا الأمر سارٍ حتى على العبادات، التي هي صِلَة العبد بربِّه، وواجب العبد إزاء ربه عز وجل؛ حيث هناك مبدأ الترخُّص، بل تحريم بعض العبادات في أوقات معينة مراعاةً لمشاعر الناس، مثل تحريم الصوم في أيام العيدَيْن، وتحريم الصلاة في أوقات معينة من اليوم، وهكذا.
ويماثل ذلك في ضرورة الفهم، قاعدة الأسباب؛ حيث جعل اللهُ تعالى لكلِّ شيء سببًا، ولا يفلت من هذا الإدراك، أي شيء ، حتى العبادات التي نقوم بها من دون أن نعرف لهيئتها أو طبيعتها أسبابًا، هناك علماء يقولون بأن الله تعالى سوف يطلع عباده عليها يوم القيامة، وهي مثل الكثير من الأمور التي احتفظ الله عز وجل بها في الغيبيات.
شاءت حكمة الله ألا نطَّلع على أسباب وعِلَلِ كل شيء في الدنيا؛ لأسباب مثل: اختبار إيمان الإنسان ودرجة تسليمه بأحكام الله تعالى، مع علمه سبحانه بحاكمية العقل وسطوته على الإنسان.
شاءت حكمة الله ألا نطَّلع على أسباب وعِلَلِ كل شيء في الدنيا؛ لأسباب مثل: اختبار إيمان الإنسان ودرجة تسليمه بأحكام الله تعالى، مع علمه سبحانه بحاكمية العقل وسطوته على الإنسان
فلا يمكن بالإطلاق القول إنه يتم فتح المجال للإنجاب بمنطق قوله تعالى في القرآن الكريم: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [سُورة الإسراء– من الآية31]، وقوله عز وجل: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [سُورة الأنعام-من الآية151]، والحديث الصحيح للرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا، فإني مُباهٍ بكم الأمم يوم القيامة) [أخرجه النَّسَائي وأحمد وآخرون].
والقيود على ذلك كثيرة، ومُقَرَّة شرعًا، حيث يجب أن يكون لهذا الأمر نظامه وفق قواعد كُلِّيَّة عديدة، منها أنه "لا ضرر ولا ضِرار"، وقانون الاستطاعة الذي أمرنا الله تعالى أن نسيِّرَ أمورنا به، ومن بين ذلك بلغة الاقتصاد الحديث، الموارد المتاحة، واعتبارات أخرى عديدة تكلم فيها علماء كبار.
والدليل على ذلك قائم في كلام آخر للرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" نفسه، حيث يقول عن الكثرة من جانب آخر: "كثرة كغثاء السيل لا تضر عدوًّا ولا تنفع صديقًا". فهي –إذًا– كَثْرَة ضعف ووهن في هذا الموضع.
ولقد تم اختيار هذا المثال؛ لأهميته ومركزيته في صدد هذا الموضوع، حيث إن هذه المسألة بالصورة التي يتداولها البعض، وعكست صورة غير سوية عن المجتمعات المسلمة، واهتماماتها وأولوياتها، وعن نظرتها للمرأة، وغير ذلك مما هو شائع ونقرؤه ونسمع عنه يتردد بشأن المسلمين في كثير من بلدان العالم الأخرى.
وهو كذلك أمرٌ يمكن فهمه من مسائل أخرى. منها العلاقات الزوجية. فالقرآن الكريم يقول حكمًا قد يبدو مطلقًا. يقول تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [سُورة البقرة-من الآية223]. لكن هذا لا يعني ما يقوله البعض، من أنه في أي زمان ومكان يمكن للإنسان أن يأتي زوجته.
فعلى أبسط تقدير، هناك أوقات معينة يحرُم فيها أصلاً الاتصال بين الزوج وزوجته وقت الدورة الشهرية لها. هذا قيد فسيولوجي وضع الله تعالى له قاعدة شرعية تحكم الاتصال الزوجي وقته، فهل الله تعالى –حاشاه أي عارض وسبحانه من أي نقص– قد أنزل الآيات التي تقول بمنع ذلك بعد علم، بعد أن أنزل آية "البقرة" التي تحمل ظاهريًّا إطلاق حكم الاتصال؟! إطلاقًا، فعلم الله تعالى مطلق، وسابق لكل شيء، وهو يعلم مَن خَلَقَ، وهو اللطيف الخبير، ناهينا أصلاً عن القيود النفسية وكذا التي ورد في السُّنَّة النبوية ضرورة احترامها.
نفس المشكلة تحدث في قراءة البعض للحديث النبوي الذي ورد في الصحيحَيْن، وفيه قوله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، حيث الرفض المذكور في هذا الحديث، يعني رفض الزوجة من دون عذر، أو لمجرَّد العناد أو إذلال الزوج أو كذا... لكن أبدًا "ليس كل" امرأة ترفض طاعة زوجها في الفراش، تبيت تلعنها الملائكة.
وبالتالي فالنَّص من سُورة "البقرة"، عليه قيود في آيات وأحاديث أخرى، والأمثلة على هذا كثيرة، ويعرف المفسرون أن القرآن الكريم يفسِّر نفسه أصلاً.
وأوضح أدلة ذلك، قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سُورة "النساء" – من الآية 19]، وقال عز وجل أيضًا: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سُورة "البقرة" – من الآية 228].
ذات الخلط جاء في قضايا أخرى، كان التعامل معها من جامدي الفكر، من أسوأ ما يمكن، ممَّا شكَّل حتى قطيعة بين الإسلام والعلم سواء في الصورة الذهنية أمام غير المسلمين، أو حتى فيما يخص نظرة بعض المسلمين لدينهم ذاته، فكانت تيارات العلمانية، بل والإلحاد.
ذات الخلط جاء في قضايا أخرى، كان التعامل معها من جامدي الفكر، من أسوأ ما يمكن، ممَّا شكَّل حتى قطيعة بين الإسلام والعلم سواء في الصورة الذهنية أمام غير المسلمين، أو حتى فيما يخص نظرة بعض المسلمين لدينهم ذاته، فكانت تيارات العلمانية، بل والإلحاد
ومن ذلك عندما تم اجتزاء –بصورة ترقى لمستوى الجريمة– آية: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [سُورة الشُّعراء-الآية80]، من سياق كبير، بصورة حرَّج بها البعض على المسلمين طلب العلم المادي العادي، أو ما يُطلق عليه العلم المدني، مثل الطب.
وهؤلاء يتناسون قاعدة الأسباب، والتي عدم الإيمان بها يرقى لمستوى الكفر، حيث الإيمان بالأسباب، من الإيمان برب الأسباب.
بل تناسوا دليلاً مهماً يؤكد ذلك، في الآية السابقة على هذه الآية مباشرة، والتي قال فيها رب العزة سبحانه على لسان نبيه إبراهيم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)}، فأين الإطعام والسقاية من دون أسباب؟! ولماذا الربط المباشر بين الله تعالى والشفاء من دون سبب، وعدم الربط بينه وبين الطعام والسقاية من دون سبب؟!
ثم ربط البعض ذلك بشكل خاطئ تمامًا ومتعسف، بأحاديث نبوية تكلم فيها الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الظواهر الطبيعية، مثل الأمطار والرياح، التي أرجع فيها الأمر كله لله عز وجل، بينما كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، غرضه مما قاله فيها، هو إيصال فكرة الخالق الواحد المدبِّر لهذا الكون، إلى عقول المسلمين، ضمن متطلبات الدعوة في سنواتها الأولى، وفي ظل ظلامية وجهل كانا مُطبقَيْن على بيئة البعثة.
لكنه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أبدًا ما كان يقصد أن ينفي قاعدة الأسباب المادية العلمية التي تحكم هذه الظواهر.
فحتى بأبسط معايير الفهم، فإن الله تعالى هو الذي منح الأشياء طبيعتها، فهو الذي خلق بخار الماء ومنحه صفة التكثُّف في صورة سحب في ارتفاعات معينة، ثم وضع طبيعة معينة في طبقات الجو؛ لكي تُحوِّل هذه السحب إلى أمطار متساقطة في ظروف معينة خلقها الله تعالى كذلك. فهو في النهاية، كله مردود لله تعالى.
هذه المشكلة على هذه الصورة، ليست ترفًا، حيث إنه –في جانب فقط من جوانبها– ترتبط بالمرض الأكبر الذي تعاني منه الأمة الآن، وهو التكفير والاقتتال، عندما تم إطلاق الأحكام الشرعية في بعض الأمور، من دون النظر إلى الظروف والملابسات، ومبدأ الموازنة بين المصالح والأضرار.
ناهينا عما سبق قوله في صدد ما تسبب به البعض بهذا الجمود والاجتزاء، في إحداث تعارض غير قائم أصلاً، بين الدين والعلم المادي الذي تصدقه حواس الإنسان المباشِرة وأدوات القياس الحديثة، فيكون الإلحاد، أو على أبسط تقدير، انصراف الناس عن الدين.
وعلى هذا النحو، وفي ظل التراكم الزمني الهائل الذي تم لهكذا طرائق تفكير، فإننا بحاجة إلى جهد قد يتطلب عقودًا طويلة لفهم حقيقة هذا الدين، وفهم كتاب الله عز وجل وكيفية التعاطي مع نصوصه، وتلقين الأجيال الجديدة الصاعدة حقائق كثيرة مطموسة في هذا الصدد، ربما تشكل بالفعل الجانب الأكبر من أزمات ومشكلات المسلمين في الوقت الراهن.