الإيمان باليوم الآخر ركن أساسي من أركان #العقيدة الإسلامية، والتي جاءت نصوصها لتركز عليه تركيزاً واضحاً جليّاً، فتشد انتباه المتفكر، وتجذب بصيرة السامع، ولا تقوم قائمة للإيمان من غير هذا الركن، والذي هو من ضمن الغيبيات التي امتدح الله تعالى عباده الذين آمنوا بها إيماناً راسخاً، قال تعالى في كتابه العزيز:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون(4)} [سورة البقرة].
و#الإيمان باليوم الآخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بالله تعالى، وهذا يتضح في كتاب الله العزيز إذ يقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة، الآية: 62]، وقوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ...} [سورة البقرة، الآية:177]، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فَأَخْبِرْنِي عن الْإِيمَانِ، قال: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) (رواه مسلم).
فإذا كان الإيمان بالله تعالى يعطيك تصوراً عن خالقك والموجد لهذا الكون، فتقيم نفسك عند حدوده، فتتبع أوامره وتجتنب نواهيه، فكذلك الإيمان باليوم الآخر يعطيك التصور عن المصير الذي ستؤول إليه بعد نهاية وجودك في هذا الوجود، وإلى النهاية الحتمية التي ستبلغها كل الموجودات على حد سواء، ويبقى سعي الإنسان يدور ما بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وما بينهما من إيمان بتلك الحقائق الغيبية التي سلمت أمر إيمانك بها في قلبك ونفسك لله من ملائكة وكتب ورسل وبالقدر خيره وشره.
الإيمان باليوم الآخر يضفي على الحياة معنى آخر أشد تجلياً ووضوحاً، فهو يعطيك التصور الكامل الذي يفوق التصور الظاهر والقاصر الذي يفهمه الناس من هذه الفترة المحدودة من حياة البشرية، فما عمر الأفراد بل والحياة كلها إلا أياماً معدودة لا تكاد تذكر نسبة لتلك الحياة التي يقدمها لك التصور الرباني عن اليوم الآخر، وما هذه الأعمار التي نشهد إشراقها وأفولها إلا أنفاساً نلفظها في درب سعينا نحو الحياة الآخرة.
ما عمر الأفراد بل والحياة كلها إلا أياماً معدودة لا تكاد تذكر نسبة لتلك الحياة التي يقدمها لك التصور الرباني عن اليوم الآخر، وما هذه الأعمار التي نشهد إشراقها وأفولها إلا أنفاساً نلفظها في درب سعينا نحو الحياة الآخرة
وليس هناك ما هو أسهل من أن تحطم حياة الفرد بل الأمة بأسرها، فقط جرّدها من أهدافها، فإذا نشأ الفرد فوضوياً عشوائياً لا يعيش إلا للحظته الآنية، فقد وضع أول خطاه على طريق الهاوية، وأنّ أولئك الذين يحيون مجردين عن التصور للحياة الأخرى ولا يرتبطون بقيمها ومعالمها فهم أكثر تخبطاً في سلوكهم وطبيعة حياتهم وحقيقة أخلاقهم، إذ لا هدف يسعون إليه، ولا غاية يرجونها غير تلك اللحظة التي يعيشونها.
وهؤلاء بانشغالهم عن حقيقة الحياة الدنيا -والتي ما هي إلا جسر العبور للأخرى ودرب يسلكه المسافر إلى الله- إنما ضيقوا واسعاً، وغفلوا عن الحقيقة التي نبّه إليها الرحمة المهداة للعالمين: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) (رواه البخاري) ، فجاءت هذه الوصية وهذا التنبيه؛ ليلفت نظرك ويأخذ بتلابيب روحك وقلبك أن ثمة نهاية نسير إليها عبر هذا السفر في هذه الحياة الدنيا، وأنّ هذه الحياة ما هي إلا مزرعة الحياة الأخرى، فإن كانت هذه دار عمل فإنّ الأخرى دار أمل، نحصد ما زرعناه في حياتنا الأولى .
وما هذا الضيق الذي تعانيه النفوس اليوم رغم ما نشهده من تقدم حضاري، وما يعانيه العالم من أزمة في تردي قيمه ومعانيه وانحطاط في أخلاقه، وبروز معالم حياة الغاب في عيشه وحياته، وتزايد الاعتداء على الأبرياء والأوطان والأنفس والأعراض من غير رادع إلا نتيجة لغياب التصور الحقيقي لمفهوم الحياة الدنيا والآخرة على حد سواء.
وما تراجع أهل الحق عن نصرة حقهم، والتخاذل عن نصرة المظلوم والضعيف إلا نتيجة لضبابية في فهم التصور للحياة الدنيا والأخرى في حياة الأفراد والجماعات والأمة بأسرها ، ولو نظرت في سيَر السابقين من صحابة وتابعين وصالحين ومن قبلهم الرسل المبعوثين للبشرية على امتدادها، فلم تشغلهم دنياهم حتى وهم يأخذون بنصيبهم منها عن الحياة الأخرى، فأنزلوا كل حياة فيهما منزلتها، فلم تطغَ الدنيا على حيواتهم، ولم تكبر في قلوبهم، فما عميت لذلك أبصارهم، ولا غشيت الغشاوة بصيرتهم، وهل قصة أصحاب الأخدود إلا مثالاً صارخاً وواضحاً على قيمة الحياة الدنيا والآخرة في قلوبهم ونفوسهم، وهل إقدامهم على ما أقدموا عليه طواعية إلا لوضوح تصورهم واعتقادهم الجازم باليوم الآخر الذي يستحق التضحية بما ضحوا به.
وشتّان بين عبد يضع الغاية التي من أجلها استخدمه سيده ومولاه فيها نصب عينيه، فتجد بوصلته مضبوطة، وسعيه منظماً، وبين عبد يعيش فارغاً لا يشغله إلا تلبية شهوة هنا، أو إرضاء نفس هناك، فالذي ينظر للدنيا بمنظور الغريب العابر لا المقيم الدائم ينعكس هذا في خُلقه وحاله ومآله، وسلوكه مغاير لسلوك وحال وخُلق ومآل الذي ينظر إليها ويعيشها كمقيم خالد، فأنّى يردعه هذا عن ظلمه وجبروته؟!
شتّان بين عبد يضع الغاية التي من أجلها استخدمه سيده ومولاه فيها نصب عينيه، فتجد بوصلته مضبوطة، وسعيه منظماً، وبين عبد يعيش فارغاً لا يشغله إلا تلبية شهوة هنا، أو إرضاء نفس هناك
وهل تزايد حالات الانتحار والتخبط في سير الحياة -ولا سيما في المجتمعات التي لا يضبط سلوكها الإيمان بالله وباليوم الآخر- رغم ما تشهده من تقدم على عدة مستويات إلا نتيجة لفراغهم الروحي، ولتخبط سعيهم في وديان الحياة، والتي لن يشبع منها ابن آدم قط.
إنّ الحارس الحقيقي للمجتمعات والأفراد من الشذوذ الفكري والسلوكي، النفسي والأخلاقي، والخروج عن تناسق الخلق منذ نشأته حتى نهايته إنما هو ضبط بوصلة الإيمان باليوم الآخر، والسعي في مداره على بينة ونور ، فإيماننا الراسخ بحياة أخرى من أجلها خُلقنا وفيها نبعث ونحاسب وفيها القرار والمقام، إنما ذلك يضبط سعينا في هذا الوجود وفق مراد الله لا وفق أمزجتنا وأهوائنا، فإدراكنا بأنّ أعمالنا مهما قلت أو كثرت، عظمت أو هانت، إنما ستنشر بين أيدينا ونحاسب عليها، لا فرق بين عبد وسيد، أو ملك ومملوك، وإذا تفكّرت في قوله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}[سورة آل عمران، الآية:30]، وقتها تختلف نظرتنا للوجود، وينسجم مسارنا مع موجد الوجود.إنّ الإيمان بالحياة الأخرى يعطيك معنى يفوق معنى هذه الحياة، فتستسيغ مُرّها كما استحليت حلوها، وتصغر في عينيك متاعب الدهر، وتنسيك حقيقتها عثرات المسير، فتسير بخطاك الثابتة متحاملاً على جروحك النازفة، لا تضرّك غربة قيمك ومبادئك عن زمانك، وقد بذلت ما بوسعك في هذه الفانية، فتحيا في الأولى في ظلال الإيمان بالله وما يرتبط به من أركان، حتى تنال في الأخرى راحة ونعيماً، وحياة خالدة آمنت بها إيماناً راسخاً كما الجبال، فعشت معانيها من قبل أن تشهدها حقيقة أو تراها عياناً.
إنّ الإيمان بالحياة الأخرى يعطيك معنى يفوق معنى هذه الحياة، فتستسيغ مُرّها كما استحليت حلوها، وتصغر في عينيك متاعب الدهر، وتنسيك حقيقتها عثرات المسير، فتسير بخطاك الثابتة متحاملاً على جروحك النازفة، لا تضرّك غربة قيمك ومبادئك عن زمانك
لن تحلو حياتنا هذه ما دامت تغيب عنا الأخرى، ولن نستصغر الدنيا ما لم نعظم الآخرة، ولن تعلو هممنا ما دمنا نبذلها في الرخيص الفاني، خذ من حياتك نصيبك منها، ولا تنس أنها مطيتك ووسيلة سفرك للآخرة، لكن لا تجعل بصيرتك تزيغ عن الأخرى، علموا أبناءكم بأفعالكم وأعمالكم أن يخططوا للمستقبل الخالد كما تتفانون في سبيل تأمين مستقبلهم الدنيوي الزائل، ازرعوا وانثروا قيم الحياة الأخرى في حياتكم، وتنفسوها وتذاكروها في مجالسكم، ولا تجعلوا ذكراها حكراً على مآتمكم، إنما خلقت لنرتبط بها حياة مقبلة لا حياة مدبرة، فالذي يحيا للحياة الخالدة إنما هو حي وإن غيبته القبور، والذي يعمل لحياة فانية لهو ميت ولو كان في القصور، فالبذل والتفاني للخلود أحق وأولى من السعي للفناء والزوال.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد.