حديث “لا حلف في الإسلام”.. هل يحرم الحزبية؟

الرئيسية » بصائر الفكر » حديث “لا حلف في الإسلام”.. هل يحرم الحزبية؟

من أعجب ما اطلعت عليه من استدلالات المحرّمين لـ"الحزبية" في الإسلام، استشهادهم بحديث جبير بن مطعم الذي رواه الإمام مسلم مرفوعاً: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة".

يقول الشيخ عدنان عرعور في كتابه "منهج الاعتدال" (ص104-105) عقب استشهاده بهذا الحديث على تحريم التحزب:

"والحلف: هو تجمع قوم دون قوم على شروط معينة، وغالبها يكون خيراً للمتعاقدين على ذلك الحلف، وقد كان ذلك في الجاهلية، يجتمع بعض القوم دون الآخرين، ويتعاقدون على نصرة المظلوم، وإعانة الكَلّ، وما شابه ذلك، كما كان ذلك في حلف الفضول، وحلف المطيبين، ثم حرم ذلك الإسلام.

وربما يتساءل المرء كيف يحرم الإسلام التعاقد على الخير؟!

قلت (القائل عرعور): سر هذا في المقطع الثاني من الحديث "وأيما حلف في الجاهلية؛ لم يزده الإسلام إلا شدة" أي: أن أي حلف كان في الجاهلية على خير، فقد جاء الإسلام بذاك الخير وأفضل منه، ولما كان المسلمون كلهم أعضاء في حلف - حزب - الإسلام، كان لا حاجة البتة إلى الدعوة إلى أحلاف في الإسلام جانبية". أ.هـ كلام العرعور

قلت: في كتاب الكفالة من "صحيح البخاري" وتحت باب قول الله تعالى "والذين عاقدَتْ أيمانُكم فآتوهم نصيبهم"، روى الإمام البخاري من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "ولكل جعلنا موالي" (النساء: 33) قال: ورثة، "والذين عاقدت أيمانكم" قال: كان المهاجرون لمّا قَدِموا المدينة؛ يرثُ المهاجرُ الأنصاريَّ دون ذوي رحِمِه؛ للأخوّة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت "ولكلٍّ جعلنا مَوالي" (النساء: 33) نَسَخَت، ثم قال: "والذين عاقدَتْ أيمانُكم" إلا النصرَ، والرِّفادة، والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له.
ثم روى البخاري ومسلم - واللفظ للبخاري - من حديث عاصم الأحول قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله عنه: أبَلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام"؟ فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري.

قال ابن حجر في "فتح الباري" (4/473-474): "قال الطبري: ما استدلّ بن أنسٌ على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة، وكانوا يتوارثون به ثم نُسخ من ذلك الميراث، وبقي ما لم يُبطله القرآن، وهو التعاون على الحق والنصر والأخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس: (إلا النصر والنصيحة والرفادة، ويوصَى له، وقد ذهب الميراث)...

وقال الخطابي: قال سفيان بن عيينة: حالف بينهم، أي آخى بينهم، يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الأخوة في الإسلام، لكنه في الإسلام جارٍ على أحكام الدين وحدوده، وحلف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم، فبطل منه ما خالف حُكم الإسلام، وبقي ما عدا ذلك على حاله" اهـ كلام ابن حجر.

وقال النووي في شرحه على مسلم (16/81): "أما ما يتعلق بالإرث؛ فيُستحب فيه المخالفة عند جماهير العلماء، وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى، وإقامة الحق؛ فهذا باقٍ لم يُنسَخ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث (وإيّما حلفٍ كان في الجاهلية لم يزدْه الإسلام إلا شدة)، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام) فالمراد به حلفُ التوارث، والحِلف على ما منع الشرع منه، والله أعلم" اهـ.

قال الإمام النووي: وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى، وإقامة الحق؛ فهذا باقٍ لم يُنسَخ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث (وإيّما حلفٍ كان في الجاهلية لم يزدْه الإسلام إلا شدة)

وقال ابن أبي نصر الأزدي في "تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم" (ص 256): "(لا حلف في الإسلام) أَي لا عقد ولا عهد على خلاف أمر الإسلام، وكانوا يتحالفون ويتعاقدون فِي الجاهلِية على مغالبة بعضهم بعضاً وفي كل ما يعنّ لهم، فهدَمَ الإسلام ذلك، وإنما المحالفة والمُعاقدة في الإسلام على إمضاء أمر الله، واتباع أحكام الدين، والاجتماع على نصر مَن دعا إليها، والمحالفة التي حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في دار أنس هي المؤاخاة والائتلاف على الإسلام والثبات عليه".

وقال ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (4/48): "أصل الْحلف: المعاقدة والمعاهدة على المعاضدة، فما كان منه في الجاهلية على القتال والغارات؛ فذلك الذي أبْطلهُ الشرع بقوله (لا حلف فِي الإسلام)، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام؛ فهو الذي لم يزدْه الإسلام إلا شدة" اهـ.

وقال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/424): "أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات؛ فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام)، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام، كحلف المطيبين وما جرى مجراه؛ فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) يريد من المعاقدة على الخير، ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان" اهـ.

قلت: هذا فهم عدد من الشراح لهذا الحديث، كلهم يفسرونه على غير ما فسره به الشيخ عرعور.. ويَحْسُن هنا أن نقتبس ما خلص إليه الدكتور منير الغضبان في كتابه "التحالف السياسي في الإسلام" (ص7)، قال رحمه الله: "ونحن نخلص إلى أن الحظر للحلف في الإسلام؛ هو ما يقوم على الاعتداء على الآخرين، وما دون ذلك فهو جائز، سواء كان بين فئات من المسلمين، أو كان بين المسلمين وغيرهم. فلقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود يوم دخل المدينة، ثم حاربهم قبيلة قبيلة عندما نقضوا العهد، كما بقي عداء قريش مستمرا حتى السنة السادسة، ثم تغيرت الخطة بعد السنة السادسة؛ فحالف قريشاً أو صالحها، بينما شن حربه على اليهود في خيبر. ورأيناه في الخندق يحاول شق صفوف العدو بالتعاقد مع غطفان حلفاء قريش، على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة مقابل رجوعها عن حرب المسلمين، في الوقت الذي نقض يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانضموا إلى أعدائه".

والتحالف قد يكون على خير، وقد يكون على غير ذلك، لا كما أوهم كلام الشيخ عرعور بأنه لا يكون إلا على "نصرة المظلوم، وإعانة الكَلّ، وما شابه ذلك"، قال أبو محمد الأنصاري المنبجي في كتابه "اللباب في الجمع بين السنة والكتاب" (2/802): "وقوله عليه السلام: (لا حلف في الإسلام) محمولٌ على نفي الحلف الذي كانوا يتعاقدون عليه في الجاهلية؛ من أن يقول: (دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك)، فكان ذلك على التناصر على الحق والباطل، فحظر الإسلام المناصرة على الباطل، وأوجب معونة المظلوم على الظالم".

وفي تعريف "الحلفاء" يقول الإمام الفقيه اللغوي أبو منصور الأزهري في "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص488): "والحلفاء هم الذين تعاقدوا على التناصر والتمالؤ على مَن خالفهم".
ففي "الحلف" معنى زائد على "الحزب" الذي هو "التجمع"، وهو "التعاقد على التناصر والتمالؤ على المخالف"، وقد يكتنف هذا المعنى أمرين باطلين:

الأول: أن يكون هذا التناصر مطلقاً، فلا فرق فيه بين أن يكون المتحالف محقاً أو مبطلاً.. مع أن النصرة المشروعة تكون للمظلوم دون الظالم، وللمحق دون المبطل.

والثاني: أن يكون هذا التناصر خاصاً بأعضاء هذا الحلف دون سواهم.. مع أن الله تعالى أوجب نصرة المؤمنين جميعاً، فقصرُ ذلك على أعضاء حزبٍ دون آخر مصادم لحكم الشرع.

إننا حينما نجرّد "الحزبية" من هذه المعاني الباطلة والثمار الفاسدة؛ تظل هي على حكمها الأصلي، وهو في أدنى احتمالاته الإباحة، مع الأخذ بعين الاعتبار للقاعدة الفقهية القائلة: "للوسائل أحكام المقاصد"

وعليه؛ فإننا حينما نجرّد "الحزبية" من هذه المعاني الباطلة والثمار الفاسدة؛ تظل هي على حكمها الأصلي، وهو في أدنى احتمالاته الإباحة، مع الأخذ بعين الاعتبار للقاعدة الفقهية القائلة: "للوسائل أحكام المقاصد".. أقول هذا بعيداً عن سرد الأدلة الشرعية التي يستشهد بها موجبو العمل مع جماعة (حزب)، أو تمحيصها وتقويمها، أو الرد عليها أو على ناقديها، فليس هذا ما يعنيني؛ بقدر ما يعنيني الرد على استدلالات محرمي الحزبية ومسفّهي مبيحيها.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب وصحفي في جريدة "السبيل" الأردنية، باحث في شؤون الحركات الإسلامية.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …