إن مما ورثناه وتعلمناه أن (حب الوطن من الإيمان)، ومما عُرِف عن العرب قديماً أنهم كانوا إذا سافروا حملوا معهم من تراب الوطن ليشموا رائحته وليأنسوا به وليهوِّن عليهم غربتهم بل وليتداوا به في بعض الأحيان.
ومن المعروف أن من وسائل الظالمين المُستبدين قديماً وحديثاً هي تغريب الدعاة والمُصلحين عن الأوطان لأن ذلك يُعد من أقسى أنواع العقاب على نفس الإنسان حتى ولو كان معه أهله وذويه، ولنا الأسوة الحسنة في النبي صلى الله عليه وسلم حين خاطب مكة بجبالها وشِعابها وسُهولها ووديانها وهو مُهاجر إلى المدينة فقال: " واللهِ إنكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأَحَبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ -عز وجل- ؛ ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرَجْتُ". فكانت سلوى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن قال له: " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ " (سورة القصص من الآية 30).
أخي المغترب: إننا نشعر ونقدر ما تعانيه من لوعة الغربة ومن قسوة الفراق وخاصة عندما تهل علينا الأعياد والنفحات فنهوِّن عليه ونقول لك : (إن الأرض لم تعد أرضاً ولا السماء سماء، إن الهواء لم يعد هواء ولا الماء ماء. إن الأهل والأحباب والأصدقاء والزملاء والجيران قد غيروا جلدهم وتنكروا للود الذي كان بيننا وبينهم وارتدوا أقنعة ما ألفناها عليهم إما خوفاً وجُبناً، وإما شماتة وعِناداً. لقد قطعوا كل الأواصر، ونسوا كل المكارم والفضائل، إلا من رحم ربي).
أخي المغترب: أنت عندما خرجت من بلدك إنما خرجت فراراً بدينك وتلبية لأمر الله تعالى: " أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا"، أو خرجت طلباً للرزق ولتجد مكاناً تستطيع أن تمارس فيه طقوس وشعائر دينك وتمارس حياتك الآدمية بحرية دون مُلاحقة أو تضييق فلا تبتئس وثق أن الله تعالى جاعل لك من كل هم مخرجاً ومن كل ضيق فرجاً ورازقك من حيث لا تحتسب.
أخي المغترب: ثق بوعد الله تعالى لك ولأمثالك حيث قال تعالى: "وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {100} " (سورة النساء ) .
يقول الإمام الرازي في تفسيره: "ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية؛ وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذ استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك...".
أخي المغترب: أذكرك وأذكر نفسي بالحديث الشريف عن عبيد الله بن محصن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أصبحَ منكم آمنًا في سِربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا" (رواه الترمذي).
إن واقعنا الآن قد انعدمت منه أسباب المعيشة التي ذكرت في الحديث الشريف.
لقد انعدم الأمن والأمان والجميع بلا استثناء ينتظر دوره في البطش والتنكيل أو السرقة أو الخطف أو ما سوى ذلك فمن يُصبح لا ينتظر المساء ومن يُمسي لا ينتظر الصباح.
ولقد انتشرت الأمراض واستشرت في المجتمع والجميع ينتظر دوره ويترقب نزول المرض به في أي لحظة ولا يجد تكلفة العلاج ولا مكانه.
ولقد زادت الأسعار وقل الدخل وعز القوت والجميع يعيش على الكفاف فانتشرت السرقات وزادت الجرائم والمشكلات.
أخي المغترب: إن وضع آلاف الأسر هنا في جحيم وشتات فالأب مُعتقل والابن مُطارد والأم حيرى بين هذا وذاك وبين أعباء الحياة وتبعاتها.
أخي المغترب: هوِّن عليك، أين نحن من غربة الخمسينيات والستينيات حيث لم تكن هناك وسائل للتواصل مثل يومنا هذا فكان المُغترب ينقطع عن وطنه وذويه السنوات ذوات العدد لا يصلهم منه ما يعرفون به حياته من موته.
أخي المغترب: هوِّن عليك إن الملايين هنا يحسدونك على غربتك ويترقبون الفرصة ليلحقوا بك.
أخي المغترب: إننا كلنا ثقة أنك ستعود - بإذن الله تعالى - إلى وطنك أكثر حُبَّاً له، وأكثر إيماناً به، وأكثر حِرصاً عليه، وأكثر بُغضا للظلم، وأكثر حُباً للعدل والحرية والمساواة.
أخي المغترب: إننا كلنا ثقة بالله عز وجل أن الوضع الراهن إلى زوال وأن الله تعالى بقدرته سيُهلك الظالمين وسيُمكِّن لأوليائه المُخلصين، وحينها سيجتمع الشمل لنعمر الأوطان ونصلح ما أفسده الطغاة الظالمين. " وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً " (سورة الإسراء من الآية 51).
اللهم رد كل مغترب إلى وطنه سالماً غانما مٌعافا مأجوراً ، والله أسأل أن يكتب لأوطاننا أمر رُشد يُعز فيه أهل طاعته ويُذل فيه أهل معصيته.