طلب الرزق: هل هو غاية حياتنا؟!

الرئيسية » بصائر تربوية » طلب الرزق: هل هو غاية حياتنا؟!
End-Of-Workday-102772904-1

لا خلاف في أن المال مهم، والسعي من أجل الحصول عليه مطلوب، سواء من الناحية الحياتية أو الشرعية، إنما تكمن القضية الحقيقة في معرفة الغاية من خلقنا: هل هو لكسب الرزق أم لعبادة الرزاق؟! فالكثيرون منا يرون أن المال هو كل شيء في الحياة، فهو السعادة وهو التعاسة، وصرنا على هذا نغلّف رغبتنا الدائمة في الحصول على المال، بأسماء شرعية ومجتمعية تبرر لنا العيش له ومن أجله، مثل "طلب الرزق"، و"إعالة الأسرة"، أو "النفس"، وأحيانًا "تحمل المسؤولية" وأمور من هذا القبيل، وإن كان طلب الرزق مطلوبًا وصحيحًا ولا غضاضة عليه، إلا أن بعضنا للأسف حوّلَه إلى هدف في الحياة، وهنا الخطأ.

فالكثير من العاملين في وظائف نظامية يعيشون في دوامة العمل لا يكادون يخرجون منها، وقد أُلغيت حياة معظمهم الاجتماعية والأسرية، وحتى الروحية أو على الأقل أحجمتها، والغالبية العظمى كذلك لا تصنع شيئًا إلا التبرير لأنفسها أن كل هذا من أجل "طلب الرزق"، وأنه لابدّ من السعي له مهما كلَّف! فصار معظم الموظفين يقضون (90%) من وقتهم -وربما أكثر- في العمل؛ "طلبًا للرزق"، بالإضافة إلى طريق الذهاب والعودة، ونتيجة لذلك، يُقصِّر هؤلاء في أمور أخرى كثيرة مهمة، على رأسها العبادة، وعلى رأس العبادة إقامة الصلاة في وقتها، ثم يتحجّجون بأنهم في رحلة السعي للرزق، وهذا إن دلّ على شيء يدل على أننا لم ندرك الهدف من خلقنا أصلًا، فمن قال أننا خُلقـــنا لأجل "غـــاية" طلب الرزق، وأن لها الأولوية في حياتنا؟!

يُقصِّر البعض في أمور أخرى كثيرة مهمة، على رأسها العبادة، وعلى رأس العبادة إقامة الصلاة في وقتها، ثم يتحججون بأنهم في رحلة السعي للرزق

-غاية الخلق:

الله -جلَّ وعلا- لم يخلقنا لأجل غاية "طلب الرزق"، كما لم يخلقنا فحسب لأداء الصلاة والزكاة وبقية الفرائض فحسب، أو للزواج وبناء أسرة فقط، أو للاستمتاع بالدنيا وانتهى! وإنما كما أخبرنا في القرآن الكريم: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات، آية:56]، والعبادة تدخل فيها أمور كثيرة جداً، من بينها العمل وطلب الرزق وليس هو كل شيء.

-حقيقة طلب الرزق والسعي إليه كما أرشدنا القرآن الكريم:

سنلاحظ أنه عندما يرد ذكر الرزق في القرآن الكريم، فإنه في أغلب الأحوال يكون مرتبطًا بكل معاني القرب من الله، أكثر من ارتباطه بمعاني السعي والجد كما ترسّخ في أذهان المعظم مع الأسف، ولم يرد السعي وبذل المجهود في طلب الرزق إلا في سياقات قليلة، وورد معها فعل "المشي"؛ ليدل على أن الأمر ليس بالسرعة والهرولة وكثرة المشقة وبذل الجهد واللهث وراء الدنيا، ومن هذه المرات القليلة ما ورد في سورة تبارك: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور(15)}.

نلاحظ أنه عندما يرد ذكر الرزق في القرآن الكريم فإنه في أغلب الأحوال يكون مرتبطًا بكل معاني القرب من الله أكثر من ارتباطه بمعاني السعي والجد كما ترسخ في أذهان المعظم مع الأسف

أما أفعال السرعة فإنها تأتي دائماً في طلب الآخرة، ومن هذا: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة آل عمران، آية:133].

كما أننا لو تأملنا في معظم آيات القرآن الكريم المرتبطة بالرزق، فسنجد أنها مرتبطة بأعمال متعلقة بالآخرة: كالعطاء والتقوى والبر والإحسان ...إلخ، أو ذكر الله من شكر واستغفار، وكثيرون منا لا يحرصون للأسف على هذه الأسباب الأساسية والجوهرية؛ لقصور في فهمهم لمعنى الرزق، وكيفية طلبه من الله، فيَرى البعض أن الدعاء والاستغفار والصدقة أمور مساعدة أو ثانوية، وليست حتى من الأخذ بالأسباب، وإنما بذل المجهود واللهث وراء المال وفرص العمل هي الأمور المسؤولون عنها والمطالبون بها.

يرى البعض أن الدعاء والاستغفار والصدقة أمور مساعدة، أو ثانوية، وليست حتى من الأخذ بالأسباب، وإنما بذل المجهود واللهث وراء المال وفرص العمل هي الأمور المسؤولون عنها والمطالبون بها

وهذا فهم خاطئ لمعنى الرزق، وهم به يرتكبون خطأ فادحًا في حق أنفسهم؛ لأنهم يضيعون فرصاً ثمينة لطلب الرزق، والتي لا تتطلب أي مجهود يذكر، اللهم إلا تحريك اللسان بذكر الله أو الدعاء، وهاكم أمثلة على ذلك من القرآن الكريم:

-{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة الأعراف، آية:96].

-{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [سورة نوح، آية:10].

-تضييع العبادة من أجل طلب الرزق:

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلا بِطَاعَتِهِ)، (رواه الطبراني والبزار وغيرهما)، فهل يصح والحال كذلك أن يكون طلب الرزق الذي أصله من عند الله سبحانه وتعالى سبباً في إهمالنا عبادة الله تعالى، وهو الهدف الأساس من خلقنا؟! إن من يقول بذلك كمن يقرر الذهاب إلى مكة المكرمة بنية الحج، ويقول تكفي النية ولا يقوم بالمناسك، للأسف، هكذا صارت علاقة معظمنا بالله وفهمنا للرزق، فصار همّنا هو الطعام والشراب، والتنزه، وشراء أغلى البيوت والسيارات، وأن يدخل أولادنا أفضل المدارس.

ونتيجة لهذا التفكير القاصر تضيع الأعمار في الوصول إلى تلك الأهداف، والتي تفشل الغالبية العظمى في تحقيق معظمها؛ وذلك لأنهم لم يأخذوا بالأسباب الصحيحة والفعالة، وفي الطريق لهذا الهدف الوهمي أو عند الفشل في الحصول عليه، يلجأ هؤلاء أخيرًا للأسباب التي ارتؤوها (ثانوية) بادئ ذي بدء وهي الدعاء والاستغفار والصدقة وغيرها من العبادات.

-ما هو نوع الرزق المطلوب منا تحصيله:

يعيش كثير منا تحت وهم، أنه مُطالب بتحصيل أكبر دخل ممكن، فيعيش حياته لاهثًا وراء المال والفرص الموصلة إليه، أما الرزق الذي طولبنا به في الإسلام فهو بكل بساطة هو "الكفاف": أي ما يكفي الإنسان من مأكل ومشرب وكساء ...إلخ من الاحتياجات الأساسية، ومن هنا: فمن يعمل ويجتهد لشراء الموبايل العلاني، أو السيارة الفاخرة الفلانية، أو ليدخل أولاده أحسن وأغلى المدارس، أو رغبة في السفر إلى البلد الفلاني (سياحة)، فإن هذه الأمور كلها تعتبر من الرفاهيات، التي يُسأل عنها؛ كونها أخذت من وقته وعمره، ولم يخصّص هذا الوقت لله وهو الأولى في حالة كهذه، نعم لا بأس بالسعي إليها طالما كانت حلالًا، شرط أن لا تكون هي حياة الإنسان، و يضيع بها السبب الذي من أجله خلق وعليه سيحاسب.

في الختام، فإن ما قلناه آنفَاً لا يقلّل أبدًا من مسألة طلب الرزق، وضرورة السعي إليه إذا لزم الأمر، ورسولنا صلى الله عليه وسلم أثنى على من يطلب الرزق حتى وإن كان الغرض منه إعفاف النفس، وإنما خير الأمور الوسط ﴿وكذاك جعلنكم أمة وسطاً﴾، ومن باب الإنصاف، فإنه قد يكون من العسير بمكان -وخاصة في زمننا هذا- تحقيق العدل المطبق بين العبادة وطلب الرزق، فمعظم الأعمال الآن تستغرق الكثير من الوقت والجهد، مما لا يعطي فرصة للإنسان بأن يعطي العبادة حقها، وصحيح كذلك، أنه قد لا يكون في يد الكثيرين الآن ترك الوظيفة للبحث عن عمل أو حتى مشروع خاص ليعملوا فيه بعض الوقت، ويخصصوا الباقي لشؤونهم الخاصة، ولكن على أقل تقدير، لنكن مدركين ومعترفين أن ما نقوم به أو نعيشه من دوامة الحياة ليس هو الصحيح أو المثالي ، فهذا على الأقل سيدفعنا للتسديد والمقاربة قدر الإمكان، وإلى التفكير في التغيير، وعدم إعطاء تلك الوظائف أكبر من حجمها، مما يجعلنا نقصّر فــــي أمور أخرى جوهرية، سنحاسب عليهــــا.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومترجمة من مصر، مهتمة بقضايا التعليم والأسرة والتطوير الذاتي

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …