الحياة الدنيا لا تصفو لأحد من المصائب والأكدار، ولا تغدو مرتعا للهناء والعيش المريح على الدوام دون نغص ولا ألم، فلا أمان من تقلباتها، لذا فهي تتطلب نفسا كبيرا وصبرا كثيرا لخوض كل معتركاتها الوعرة دون الوقوع في مصيدة اليأس، فلا ينتظم أمر هذه الحياة إلا إذا كانت العلاقة بين العبد وربه متينة، لذا فليس هناك شيء أشرح للصدر بعد الإيمان بالله من حسن الظن به سبحانه.
ولعل أكبر دافع دعاني للحديث عن هذا الموضوع هو ما نراه في الآونة الأخيرة من ارتفاع مهول في نسبة الانتحار بالعالم الإسلامي، والذي لم نكن نسمع به في أوساطه إلا نادرا؛ مما يعني بالذات أن هناك خلل ما؛ خصوصا مع وجود حالات الاكتئاب الحاد بكثرة، والتي لا تحدث إلا بالوقوع المسبق في مستنقع اليأس، وحديثي هنا بالذات إنما هو من باب توجيه الرسالة إلى أي إنسان ذاق الويلات والغصص والآلام فمل من الحياة الدنيا وضاق ذرعا بأيامها، مما أفقده شهية العيش فيها.
إن تجرعك للأوجاع والأسقام دافع لك للعيش ببسالة؛ بمعنى أنه موقف للتحدي الذاتي، وليس سببا مقنعا لليأس والاعتقاد بأن الموت هو الحل لزوال ما أصابك وانتهاء معاناتك، إذ لا أحد محصن من مباغتة الأفكار والهواجس التي توحي للمرء بأنه عاجز لا يقوى على فعل شيء يغير من حاله، فلا مفر من لحظات الضعف والانهزام التي يعلن فيها المرء وبكامل إرادته أنه لم يعد له أي بصيص من الأمل، وهذا الشعور يتفاقم إن ترك بلا علاج، وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان متعة العيش، فلا تجعل #اليأس يثنيك عن أهدافك السامية وطموحاتك النبيلة، فلرُب ضيق تعقبه سعة وانفراج قريب، فالمؤمن الحقيقي لا ييأس من روح الله، ولا يعتقد توقف عجلة الحياة إلا بإرادة المولى جل شأنه.
لا يقدر اليأس أن ينخر القلب الذي يحسن الظن بالله رغم استوطان الألم للجسد والروح، لأن حسن الظن بالله بمثابة نافذة مضيئة في القلب يشع منها الأمل الذي يقود إلى النور
ولا يمكن لليأس أن يتسرب إلى الذات التي تلازم حسن الظن بخالقها مهما بلغت معاناتها وفواجعها، فحسن الظن بالله مما يمنع المرء من الضياع في متاهة اليأس والبقاء حبيسا فيها، ويرجع ذلك لسرعة إشراق شمس الأمل في النفوس التي تحسن الظن بربها. يسهل على اليأس أن يستولي عليك حين لا تحسن الظن بالله، فهو الذي يدفعك نحو الصبر والمقاومة والاستمرار، لكي لا تصبح الحياة عندك صفرا لا قيمة لها، فأحيانا قد تحتاج فقط لأن تتحدى ذاتك وتقول بجرأة لليأس: لقد حان الوقت لأن نتوادع؛ بإحسان الظن بربك بعد كل شعور باليأس، وبعد كل انطفاء اتجاه الأشياء التي كانت تحفزك على العيش بسعادة وطمأنينة، فلو تركت الأمر كذلك دون اللجوء إلى حسن الظن بالله سيضيق صدرك من العيش فوق هذه البسيطة، وستفشل كل محاولاتك لانتزاع نفسك من اليأس.
ومن غير الله قادر على أن يزرع أملا لا حدود له في كل ثقب تخلله اليأس بقلبك، ثق أنه لن ينكسر قارب حياتك على صخرة اليأس ما دام أن هناك مجداف اسمه حسن الظن بالله، فهو الذي يفتح لك طريق الفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، لذا إياك أن تفقد إيمانك بلطف المنان، فهنالك دائما أمل مشرق رغم كل ما يحيط بك من شرور ومساوئ لا سيما إذا لازمت حسن الظن بخالقك.
ولا يقدر اليأس أن ينخر القلب الذي يحسن الظن بالله رغم استوطان الألم للجسد والروح، لأن حسن الظن بالله بمثابة نافذة مضيئة في القلب يشع منها الأمل الذي يقود إلى النور، فبه يُزال كل ما يدفع إلى اليأس، لأنه المدد الأكثر قوة وآمنا، والساعد الوحيد للنجاة، ومصباح الدجى الذي لا ينطفئ.
وبعد كل ما تم ذكره، ما الذي يمنعك بعد من أن تنشد النجاة من ربك؟ ألا زلت تحاول مراوغة اليأس الذي يداهمك؟ ألا تريد أن تلتحق بركب المحسنين الظن برهم؟ فالحذر كل الحذر أن يجرك اليأس إلى أن تسيء الظن بربك وتعتقد أنه خلقك ليعذبك، بل لطف الله ورحمته بك أكثر من رحمتك ولطفك بنفسك، فالإنسان قد يسيء الظن بربه إذا غاب عنه فهم بعض الأفكار والمعاني التي قد يعتقدها ويحملها في عقله، والتي لا تليق بربه عز وجل فيكون قد أساء الظن به، يقول سبحانه: يظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة.ِ
إن حسن الظن بالله هو صمام الأمان الحقيقي من الوقوع في معترك اليأس فبه يدرك العبد أن رحمة الله تسعه وتغمره، فلا خزائن أوسع من خزائن الرزاق، كيف لا يكون ذلك وهو القادر الذي بيده كل شيء، فلا متصرف في خلقه عطاءً ومنعاً إلا هو، فيعطي ما عنده دون أن ينقص ذلك شيئا من ملكه، ويمنع عن عباده الرزق أو الخير لا لبخل منه أو لحاجة له في المنع وإنما نفعا لهم، فبصبرهم على البلاء والمحن ورضاهم وإيمانهم بالقضاء خيره وشره ينالون أجرا عظيما، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له).
مهما بلغت شدة محنتك لا تدع لليأس أية فرصة ليجرك نحو التقوقع في قوقعته، بل اجعل ذلك من بواعث حسن الظن في خالقك، فليس هناك عسر إلا وكان معه يسر
حاولت كثيرا أن أجد تفسيرا منطقيا لسيطرة اليأس على الإنسان فلم أجد غير إهمال الجانب الروحي وخرابه وضعف الوازع الديني وتصدعه، أي أن ذلك من أهم ما يجعل المرء يعتقد أن عجزه وإحباطه وفشله في أمر من الأمور الدنيوية يعني نهاية الحياة، وهذا يعني بشكل كبير فقدان الثقة بالله وبالنفس وبالآخر، فيشعر الفرد بأن وجوده لا فائدة له إطلاقا، والأخطر من هذا كله أن يسيء الإنسان لله عز وجل بعد يأسه، وأستحضر هنا قول سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله: "اليأس والقنوط استصغار لسعة رحمة الله عز وجل ومغفرته، وذلك ذنب عظيم، وتضييق لفضاء جوده".
ومهما بلغت شدة محنتك لا تدع لليأس أية فرصة ليجرك نحو التقوقع في قوقعته، بل اجعل ذلك من بواعث حسن الظن في خالقك، فليس هناك عسر إلا وكان معه يسر، كما أن لكل انكسار جبر، فالذي يحسن الظن بالله متمسك بالأمل ومتفائل بالخير حتى في أحلك الظروف وأقسى اللحظات، لذا عليك أن تسأل نفسك دائما: هل في هذه الحياة ما يستحق العيش لأجله؟ وهل فيها ما يستدعي الاستسلام والانجراف مع تيار اليأس؟
وفي الختام ينبغي الإشارة إلى أهم شيء يلزم على المرء إدراكه هو: النقص ومواطنه في النفس، ولن يتم ذلك دون امتلاك للجرأة الكافية التي تسمح للفرد بالاعتراف بوجود النواقص، وتكرار العملية بشكل دوري ضروري لتستمر المساءلة الذاتية التي يعقبها الإصلاح الحقيقي للذات، إن أراد الإنسان أن يرى أثرا فعليا إيجابيا في حياته، وبذلك يسهل عليه توديع اليأس وكل ما يمكنه أن يضر به، ولكن يبقى الشيء المطلوب بكثرة هو حسن الظن بالله، الذي به ينبض القلب بالأمل ويردد بأن لا يأس في هذه الحياة ما دام الله معنا.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة