مدخل لحقائق أوّلية:
إذا كان لهذا الوجود غاية واحدة هي التي أوجدك لأجلها خالقك، فإن كل ما عدا ذلك من مال وعلم وصحة وزوج وأبناء وأهل وسيارة ومسكن ومقتنيات... إلخ، كل ما عدا تلك الغاية إنما هي وسائل وأدوات، مهمتها أن تعين على تقريبنا من تلك الغاية، أو تباعدنا منها بحسب تعاملنا معها، فهي في أصلها أدوات ليس إلا، وإنما تعاملنا معها هو الذي يجعلها باباً من أبواب الفلاح، أو وبالاً يؤدي للخسران والعياذ بالله!
فكم ورد المال والبنون في القرآن الكريم على أنهما زينة الحياة الدنيا! وورد في الأحاديث من فضل تربية الأبناء وسعة المال الحلال ما هو معلوم، وورد من نماذج من آتاهم الله مالاً فأخذوه بحقه فبورك لهم فيه في الدنيا والآخرة، كسيدنا "عثمان بن عفان" و"عبد الرحمن بن عوف" رضي الله عنهما، وفي ذات الوقت وردت نماذج كفرعون وقارون، وصاحب الجنتين، والوليد بن المغيرة، وأبي لهب... ممن لم يُغنِ عنهم المال والبنون والجاه شيئاً؛ لأنهم لم يعملوا في رزق الله بأمر الله، مصداقاً لقوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [الملك: 2]، وليس أحسن رزقاً أو أوسع ملكاً! إذن كل رزق وكل مادة هذه الحياة من سراء وضراء إنما هي سلاح ذو حدين بحسب تعاملك أنت معها : {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
والجهل بقَدْر الله تعالى هو المدخل الأول لسوء التعامل مع امتحان الدنيا وأدواتها ، ومما أُثِر عن السلف قولهم: "ما عُصي الله إلا بجهل: جهل به تعالى، أو جهل بشَرْعه"، وصدق الإيمان بالله يتجلى في حرصك على معرفته سبحانه في الرخاء، ومعرفة الله لا يقصد بها عن طريق ذاته سبحانه، وإنما عن طريق آثار رحمته وقدرته وعظمته، وتعلم أسمائه وصفاته التي بيّنها لنا، وبثّها في آيات الكون والقرآن، وما يترتب على الإيمان بها من انعقاد القلب عليها بيقين، وسلوك الجوارح بتصديق من بعد.
وإن أول وصف اختار الله تعالى أن يعرفنا به في أول آية أنزلت على المصطفى صلى الله عليه وسلم، هي (الخالق): {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1-2]، فتكليف الإنسان هو في حقيقته مبني على أداء حق الخالق عليه، وشكر نعمة الخلق، ليس فضلاً ولا مِنّة من المخلوق، ومن هنا نجد كثيراً من الآيات في القرآن الكريم تربط بين عصيان الإنسان من جهة، وجحوده لنعمة الله في إيجاده وخلقه من جهة أخرى: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)} [سورة عبس].
وكم نسمع في تعاملاتنا عبارات من قبيل: "أنا علّمتك"، "أنا ربيتك"، "أنا صنعت منك ما أنت عليه"، "أنا دللتك على الوظيفة"، "أنا يسرت لك الترقية"، "أنا توسطت لزواجك"... إلخ، في سياق استنكار جحود من أسدينا إليهم صنيعاً، أو معروفاً واحداً، فمـا بالنا إذ نجابه الخالق مراراً بما لا نتحمله من بعضنا مرة أو بعض مرة! فنجحد، ونجادل، ونتشرط، بل وننتقي من التكاليف ما يروق لنا وما يوافق هوانا وراحتنا.
مـا بالنا إذ نجابه الخالق مراراً بما لا نتحمله من بعضنا مرة أو بعض مرة!
ولأن الإنسان منح اختياراً، فأساس علاقتنا بالله تعالى قائم على المحبة، هذه المحبة هي الباعث والدافع الرئيس في مواصلة المسير والأنس على طول الطريق، ومن هنا كان تقرير المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أنتَ مع مَن أحْبَبْتَ) (رواه البخاري)، هو في الحقيقة عقيدة ومنهاج حياة، يوجّه بوصلة القلب ويضبط قِبلة السعي، ويستلزم الصدق والجدّية في طلب رضا من أحببت، حتى يكون رضاك في رضاه، ومحابّك فيما يحبه ويرضيه عنك: (لا يؤمِن أحدُكم حتى يكونَ هَواه تَبعاً لما جئتُ به) [حسنه النووي].
-السبيل الوحيد للحياة الطيبة:
أهمية هذا المدخل تكمن في توضيح حقيقتنا وحقيقة الأشياء من حولنا، بما لا يدع مجالاً للحيرة السائدة حول طبيعة مهمتنا، وخطورة مسؤولياتنا، ووضوح منهاج أدائها، بل ولا تترك لنا خياراً أمام أخذ الحيـــاة بقوة؛ لأن ذلك هــو السبيل الوحيد للحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، كما بيّنها الذي قـــرّرها، ومفهوم الحياة الطيبة إنما يعني الطمأنينة والسكينة والرضا في النفس، وحسن العاقبة في الآخرة، لكنه لا يستلزم صوراً محددة، كالغنى والشهرة والترف، ولا يضادها بالضرورة، إذ هذه أدوات كما سلف شرحه.
والحياة الطيبة ليست دنيا "أو" آخرة، وإنما هي دنيا وآخرة، الحياة في حقيقتها كما طَبَعها المولى سبحانه مرحلتان: مرحلة مشهودة معايشة، ومرحلة غيبية مؤجلة، فالأولى للزرع، والثانية للحصاد، الأولى عمل، والثانية حساب، الأولى معبر، والثانية مستقر، والأخذ بمرحلة دون أختها هو الذي ينشئ الخلل والاضطراب وسوء التعامل معهما، بسبب خطأ الفهم لطبيعة كل مرحلة وخصائصها والمتوقع منها.
الحياة في حقيقتها كما طَبَعها المولى سبحانه مرحلتان: مرحلة مشهودة معايشة، ومرحلة غيبية مؤجلة، والأخذ بمرحلة دون أختها هو الذي ينشئ الخلل والاضطراب وسوء التعامل معهما، بسبب خطأ الفهم لطبيعة كل مرحلة وخصائصها والمتوقع منها
فمن يأخذ الدنيا فقط ويتعامل معها على أنها هي المستقر والمنتهى، وإن قال بلسانه غير ذلك، فهو وما أراد، لكنه يضيّع نصيب الآخرة، بل ولن يصيب في الدنيا فوق ما كُتِب له وقدّر عليه مهما بذل من جهد ، لذلك وإن كنا مطالبين بعمارة الدنيا، إلا أنّ ذلك لا يعني أن نتحول إلى أطماع لا تشبع، ولا تعرف سوى الدنيا داراً، وتنحصر اهتماماتنا فيها وحدها أو فيها لذاتها، وإن الدنيا قد طُبِعت على الزينة فلا يمكن أن ننفي حقيقة زينتها وزخرفها ومحبة النفس لهذا، ومن ثّم فلا حرج في التمتع بطيبات الحياة الدنيا وزينة الحلال، لكن المطلوب إلى جانب ذلك أن ندرك حقيقة مآل وعاقبة تلك الزينة، وما المراد منها ومنا، حتى لا ينقلب التمتع بها غاية المنى والأماني، وتتحول زينتها لقيمتها، في حين أن قيمتها هي بما تعين عليه في بلوغ الغاية، وسورة الكهف من أهم السور القائمة على توضيح قدر الأمور وحقيقة طبيعتها ومقصود وجودها، يضاف لذلك أننا ننسى في حمّى عمارتنا للدنيا أنها هي المسخّرة لنا لنعمر نفوسنا أولًا، لا لنسخر لها نفوسنا فنعمرها بخرابنا!
سورة الكهف من أهم السور القائمة على توضيح قدر الأمور وحقيقة طبيعتها ومقصود وجودها
وعلى الجانب الآخر، من يكتفي بالرجاء في الآخرة ثم يزهد في استثمار مزرعة الدنيا حق الاستثمار، بأن يأخذها بقوة وتفوق وعزم: ازدياداً من الخير ونشراً له، علماً وعملاً، نفعاً وانتفاعاً، ترفيهاً وجداً، ويأخذ من صحته لمرضه، ومن فراغه لشغله، فهو مغرور يتمنى على الله الأماني، وفاته أن الجنة درجات، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وقلما يُذكر الإيمان في القرآن إلا مقروناً بالعمل الصالح ، وورد عن الحسن البصري أنه قال: "ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل، وإن قومًا خرجوا من الدُّنيا ولا عمل لهم، وقالوا: نحن نحسن الظَّنَّ بالله! كَذَبُوا، لو أحسنوا الظَّنّ لأحسنوا العمل!".