قيام دولة لها سيادتها وهيبتها، تنتهج شرعة الله فينا، وتقيم العدل، وتنشر الرخاء والأمن في البلاد وبين العباد، تحترم الحريات وتحافظ على الكرامات، دولةٌ الكلمة العليا فيها لله، وفي ظلها يعز المؤمن، ويجار المستأمن، ويلوذ في حماها الخائف والضعيف، تتجاوز الحدود التي قطّعت أوصال الإنسانية، فتلمُّ الشمل، وتوحّد الصف بلا نعرات جاهلية أو طائفية أو أي مسمى آخر.
حلم جميل يرواد كل ذي عقل منا، وغاية جليلة وإن كانت تبدو للبعض بأنها أمنية بعيدة المنال كما النجم المتلألئ في دجى الظلام، إلا أنها تبقى ممكنة الحدوث، والشاهد على ذلك أنها قامت في أزمنة خلت، وعلى أيدي ثلّة كانت تحيط بهم القوى العظمى كما يحيط السوار في معصم اليد، إضافة لشظف العيش الذي كانوا به في كبد الصحراء، وكأنهم في رقعة الأرض نقطة لا تكاد ترى بالعين المجردة، استنفذت قواهم طبيعة الحياة القاسية من جهة، وحروبهم الداخلية من جهة أخرى.
من يتأمل في سيرة المصطفى يدرك أي طبيعة كان يعيشها العرب في تلك الحقبة الزمنية، والذي يتفكر بالفترة الزمنية التي استغرقها النبي الأمين في بداية دعوته، يدرك أثرها الممتد، وأنّ المدة في الفترة المكية لم تكن عبثاً، ولم تذهب أدراج الرياح، ثلاثة عشر عاماً لم تفت من عزيمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولم تنل من إرادته وهو يصحح ويهذب عقول وقلوب القوم، بل ويغرس فيهم أسس العقيدة الجديدة، والتي جاءت لتجتث فساد وانحراف العقول والقلوب، فتعود لفطرتها وصفائها، فيؤسس للدين الجديد تأسيساً متيناً بعيداً عن الشوائب والأكدار.
ثلاث عشرة سنة ويصب النبي الكريم جلّ جهده على غرس العقيدة؛ إذ هي الأساس في كل بنيان إذا ما أردنا أن تقوم له قائمة، فكان حصاد تلك الأعوام جيل على أهبة الاستعداد أن يبذل الغالي والنفيس في سبيل معتقده الجديد، والذي قلب الموازين وقتها وصوّب المعادلة، حتى إذا جاء أمر الهجرة لاستقبال عهد جديد ومرحلة جديدة امتثلوا للأمر، تاركين خلفهم كل ما من شأنه أن يتعلق به قلب بشر، ولا عجب، فالعقيدة إذا استقامت واستوت في النفس يهون الصعب، وتتحقق المعجزات، ويغاث الناس بعد طول سنوات عجاف .
فالعقيدة التي رسخت في قلوب المهاجرين، فدفعت بهم لترك الأهل والوطن في سبيلها، هي نفسها العقيدة التي رسخت في قلوب أهل المدينة؛ ليستقبلوا المهاجرين ويشرعوا لهم أبواب القلوب والأرواح من قبل مقاسمتهم المال والوطن، فحق لهم تسمية الأنصار، من يتأمل ويتفكر بهذا كله، يدرك أنّ قيام دولة ليست مهمة مستحيلة، ولكن تحتاج لتضحية كتضحية المهاجرين، وإيثار كإيثار الأنصار .
الدولة التي نأمل بها تتجاوز الحدود التي مزقت الجسد الواحد، وتوحّد الشعوب تحت رايتها، كما توحدوا نحو القبلة الواحدة، لا بدّ أن تقوم على أكتاف قد تجاوزت -أولاً- قلوبَ أصحابها تلك الحدود، وتحرروا من نعراتهم، وتوحدت قلوبهم، وتآلفت أرواحهم حتى تتوحد رايتهم ودويلاتهم، فنقطة البدء تبدأ في فكر وقلب كل فرد منا، انطلاقاً من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد، آية:11]، فالتغيير يبدأ من الأساس الفرد والأسرة والقرية والمدينة والمجتمع، أنا وأنت، هو وهي، فأي بناء لا بد أن يكون التركيز فيه على القواعد والأساسات، وذلك قبل الاهتمام بتجميل الفناء الخارجي، وهكذا الدول، لا بدّ أن تستصلح أفكار وعقول الأفراد والجماعات، وتغرس فيهم العقيدة الصحيحة، حتى نحصد ثمار هذا الغرس.
إن أي بناء لا بد أن يكون التركيز فيه على القواعد والأساسات، وذلك قبل الاهتمام بتجميل الفناء الخارجي، وهكذا الدول، لا بدّ أن تستصلح أفكار وعقول الأفراد والجماعات، وتغرس فيهم العقيدة الصحيحة، حتى نحصد ثمار هذا الغرس
فاهتمام المرء بقلبه وفكره وإصلاح نفسه التي بين جنبيه؛ ليتلقى النور بعيداً عن الشوائب الحاجبة له خطوة أساسية لتفيض ذواتنا بهذا النور على من حولنا، فأوامر الله إن لم نلتزمها في خاصة وعامة أمرنا، فكيف ندعو بها غيرنا، أولم ينكر الله على بني إسرائيل ذلك عندما خاطبهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة البقرة، آية:44].
فإن لم تُقم شرعة ربك في نفسك وبيتك ومحيطك، فأنت أعجز من أن تفكر، أو حتى تحلم أن يكون لك دولة على أرضك ، فقيام دولة العدل في ذواتنا هي البذرة الأولى لقيامها حقيقة على أرضنا، عندما تكون الأنصاري الذي ينصر أخاه ويقاسمه رغد العيش وقسوته، والمهاجر الذي يبذل الروح والمال بل والولد في سبيل رسالته، تقم وقتها دولتك.عندما تجتث الاستبداد في فكرك وقلبك قبل محاربته على الأرض، وقتها يكون لك سلطان عادل، عندما تتحرر من الجاهلية في عاداتنا وتقاليدنا، ودقائق أمورنا التي تترعرع في تربة قلبك، يسطع نور رسالتك على من حولك، فما ارتقاء وتحرر المجتمعات إلا بتحرر وارتقاء أفراده .
وتيقن أن الله لن يحاسبك على عدم قيام الدولة في زمانك، وعلى أرضك، ولكنه سيحاسبك على الغفلة عنها في قلبك وبيتك، وعلى من هو تحت ولاية أمرك، فلن تقوم للإسلام دولة على أرضنا ما لم يسبقها قيام دولة في قلوبنا وأفكارنا، فأن تقضي وتلاقي ربك وقد بذلت الخطوة الأولى في سبيل قيام تلك الدولة، خير لك من أن تموت موتة جاهلية، وشتان بين من يشعل شمعة لتضيء لمن حولها، وبين من يجلس مكتوف اليدين ساخطاً على الظلام، شاتماً انقطاع النور .
يكفيك فخراً وعزاً أن تكون كأبيك إبراهيم عليه السلام -خليل الله-، تنتهج نهجه، وتقتفي أثره، وليكن قدوتك، لا يضرك من ضلّ ولا يؤثر فيك من عثر، فقد كان بإيمانه متفرداً متميزاً ساطعاً في وسط واقع يموج بالكفر والضلال، وتأمل ثناء الله سبحانه وتعالى عليه ومدحه له في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة النحل، آية:120].