يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [سُورة "الأحزاب"، الآية:72].
ومن جماع التفاسير المختلفة في تفسير هذه الآية، فإن الأمانة التي كلَّف الله تعالى بها بني آدم، تتضمن إبلاغ عقيدة التوحيد، وإقامة العبادات والفرائض، وإتيان الطاعات.
وفي التفسير، فإن الله تعالى عندما عرض الأمانة على آدم عليه السلام، قال له سبحانه إنه إذا أحسن-أي آدم- فإنه سوف يُثاب، وإذا قصَّر سوف يُعاقَب.
وفي القرآن الكريم أيضًا يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سُورة "الذاريات"، الآية:56]، وفي هذه الآية يبدو أن أهم صور الأمانة التي حملها الإنسان، هي العبادة وما افترضه الله تعالى فيها على الإنسان.
والتكليف بأداء الأمانة، يعني أن يقوم الإنسان بأداء الأمور والواجبات التي تجعله يحقق مقاصد هذه الأمانة ويقيمها، وهو –بالتالي– يشبه ما يُطلَق عليه في العلوم الإدارية والاستراتيجية، بالأمر التنفيذي من أجل القيام بأعباء الأمانة.
ولقد حمل آدم عليه السلام هذا التكليف بمجرد قبوله بالقيام بالأمانة على النحو المذكور في آية الأحزاب.
ما الذي نحن بصدده وأهميته:
إن مفهوم الأمانة والتكليف بها، من الأمور الشديدة الأهمية كما جاء في القرآن الكريم، حيث كلاهما –الأمانة والتكليف بها– هما في الأصل صُلب غاية خلق الإنسان، واستخلاف الله تعالى له في الأرض، واستعماره فيها كما أنبأ القرآن الكريم.
كما أن كليهما من المسائل شديدة الاتساع، وفي القرآن الكريم لا تحمل الطابع العام الذي يميز في الغالب الخطاب القرآني في الكثير من الأمور، وهو الأمر الذي اقتضته حكمة الله تعالى؛ لكي يكون القرآن الكريم خطابًا وتعاليمًا صالحًا حتى يشاء الله تعالى أن يرفعه من الدنيا في آخر الزمان.
وفي هذا الصدد يقول العلماء: إن الأمور التي يفصّل فيها القرآن الكريم بدقة وشمول لكافة ما يتعلق بهذا الأمر أو ذلك، يعني أهميته القصوى، وقيمته وعِظَمُه لدى الله تعالى، مثلما جرى في الشؤون الخاصة بتنظيم الأمور والحقوق والواجبات في الزواج والمواريث.
وبالتالي، فإن مفهومَيْ الأمانة والتكليف في القرآن الكريم، أكبر وأوسع بكثير مما يتصوره البعض، ويختزله في العناوين الكبرى السابقة: نشر عقيدة التوحيد، وإقامة تعاليم الله تعالى في الأرض، والتي أنزلها تترى على أنبيائه ورسله، حتى وصلت الإنسانية إلى الشريعة الإسلامية، الشِّرْعَة التامة التي أنزلها الله تعالى على رسوله الكريم، محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وهذه الصورة الكُلِّيَّة التي رسمها القرآن الكريم في هذا الصدد، من المهم للغاية أن تكون في ذهنية وحُسبان المشتغلين في حقل العمل الإسلامي، بالذات في هذه المرحلة التي تشهد الكثير من الارتباكات في مختلف اتجاهات العمل ضمن المنظومة الإسلامية.
ولسنا هنا في معرض تناول هذا الأمر من الجانب التفسيري القريب -اللغوي والاصطلاحي الشرعي- حيث إن الكثير من العلماء تناولوا ما يتعلق بالتكاليف في القرآن الكريم، وصُوَر أوامر الله تعالى في هذا الصدد، مثل صُوَر الأمر والنهي، سواء بالتعبير المباشر، مثل: "افعلوا" و"لا تفعلوا"، أو التعبير غير المباشر، مثل: قرن الفعل الجيد/ السيء بالثواب والعقاب، وأساليب الترغيب والترهيب المختلفة التي استعملها الله تعالى في كتابه العزيز.
كذلك لسنا بصدد تناول الجوانب الفقهية للتكليف وشروطه، مثل ضرورة توافر العقل والحرية، وما إلى ذلك، حيث هي كذلك موجودة في كتب التفاسير والفقه منذ أن بدأ المسلمون في هذا العمل قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان.
وإنما مقصود الحديث، هو الجانب الذي يتعلق بتحقيق فهم المسلم للغرض من خلقه، والمهام التي خُلِقَ لأجلها.
ومَردُّ ذلك أمرٌ شديد الأهمية، وهو ما نجده من ضلالات في تفكير كثير من دوائر ومجتمعات المسلمين، ولاسيما الشباب بشأن تقييم واقع أنفسهم في الدنيا، وبوصلة سعيهم في الدنيا، وتعريفهم لمفهومَيْ "النجاح" و"الفشل" في هذا الإطار، والمعاناة وثمارها المتأخرة، التي ربما تشاء حكمة الله تعالى أن تؤخر هذه الثمار إلى الآخرة.
فبغياب الفهم الصحيح لفلسفة التكليف والعمل في القرآن الكريم –مصدر شريعتنا الأساسي كمسلمين– لا يصح السعي، ويتم تغليب اعتبارات مرتبطة بمكاسب الدنيا المادية بالمفهوم الواسع للمادية، مثل المال، والعمل، وباقي ما تكلم عنه القرآن الكريم من زينة وزُخُرف الحياة الدنيا، على الاعتبارات التي تتصل بمقصود الله تعالى من خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، مما أدى إلى إعلاء الأدنى على الأسمى، وبالتالي حصول الخلل.
بغياب الفهم الصحيح لفلسفة التكليف والعمل في القرآن الكريم –مصدر شريعتنا الأساسي كمسلمين– لا يصح السعي، ويتم تغليب اعتبارات مرتبطة بمكاسب الدنيا المادية بالمفهوم الواسع للمادية
معالم من فلسفة التكليف في القرآن الكريم:
من خلال مراجعة لآي الذِّكْر الحكيم في هذا المجال الموضوعي، فإننا سوف نقف أمام معالم عديدة لفلسفة التكليف في القرآن الكريم.
وأول هذه المعالم، التأكيد على عظيم هذه المهمة، المتعلقة بقيام الإنسان بأعباء الأمانة العظمى، بصورة تتراجع أمامها مختلف المهام الأخرى التي يقوم بها الإنسان على الأرض، بسبب ارتباطها بعقيدة التوحيد وإقامة شريعتها.
وهذا يرد في جانب من جوانبه على بعض الاعتراضات التي تتصل بمسألة الأفضلية بين عابدٍ مسلم مُوحِّد، صحيح العقيدة والعبادة، ويقوم بأركان دينه في مجالاته الثلاث، العقيدة والعبادات والمعاملات، وبين عالم غير مسلم، أو ملحد، يقدم للبشرية الكثير، وكيف يدخل هذا الجنة، ولا يدخل ذاك، برغم ما قدمه من خدمات للإنسانية.
ولكي لا نُستطرد في تناول هذه القضية التي أثارت الكثير من الجدل مؤخرًا بعد وفاة العالم الأمريكي الشهير، جون هوبكينز، فإنه بعد القيمة والأهمية القصوى التي أثبتها القرآن الكريم لهذه المسألة، فإننا نشير إلى المَعْلَم الثاني المهم في هذا الصدد، وهو الصعوبة والمشقة التي تتصل بالقيام بأعباء الأمانة.
فعلى سبيل المثال، يقول تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [سُورة "البقرة"، الآية:45]. وهذا بالرغم من أن أداء الصلاة قد يبدو للبعض على أنه في المجال البدني، من أسهل الأمور، إلا أننا نجد الكثير من التقاعس عن أدائها من جانب بعض المسلمين.
ولو تأملنا الجهد البدني الذي يبذله بعض المقصرين أو تاركي الصلاة، في اللعب والرياضة، حيث قد يساوي الجهد المبذول في ساعة رياضة واحدة، جهد الصلاة أيامًا عديدة ، ووقتها سوف نجد هنا كَم كان القرآن الكريم دقيقًا في كيفية تعبيره عن هذه المسألة.
وعلى ذلك، نجد المشقَّات العظيمة المادية والمعنوية المحيطة بأمور التكاليف المختلفة الأخرى، في العبادات، فصيام رمضان والحَج، الجزء الأساسي من منطلق التكليف فيها هو المشقة، بينما الزكاة تتعلق بمشقة من نوعٍ آخر، وهي مشقة نفسية تتصل بما جُبِلَتْ عليه النفس الإنسانية من حُبِّ المال، اختبارًا وابتلاءً من الله تعالى لعباده.
وكذلك نفس المنطق أو الفلسفة، نجدها في تكاليف أخرى، ولاسيما تلك المتعلقة بالتعامل مع الآخرين، والتدافع إزاءهم لتنفيذ تكاليف الأمانة، مثل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتأتي النبوات والرسالات كأعلى مرتبة من مراتب التكليف، وبالتالي، فهي أشقّها؛ لأنها أعظم وأخطر مستوىً للقيام بالأمانة.
وفي ذلك نجد في القرآن الكريم تعبيرًا مهمًّا للغاية في هذا المجال، وهو تعبير "أولو العزم من الرُّسُل"، والذي ربطه الله عز وجل بالقيمة العظمى في الإيمان بعد الإخلاص، وهي الصبر كما في حال الصلاة... يقول تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[سُورة "الأحقاف"، من الآية: 35].
وذلك بالرغم من أن مهمة الإصلاح والتغيير التي تؤكد القوانين العمرانية المستقاة من قَصَص القرآن الكريم عن الأقوام السابقين، ودعوات أنبياء ورُسُل الله تعالى فيهم، أنها لا تتم إلا بالتدريج، وبوسائل الإقناع المختلفة، وبأنها لصالح المجتمعات، لا العكس، تخبرنا آيات القرآن الكريم في هذا الصدد، بأنه كَم تعرَّض هؤلاء الأنبياء والرُّسُل إلى الكثير من العنت خلال أدائهم لمهامهم هذه.
ووصل هذا الامر إلى حد التآمر على قتلهم، بل وقُتِلَ بعضهم فعلاً، مثل نبي الله، يحيى (عليه السلام)، ومَن قتلهم بنو إسرائيل منهم، وذَكَر القرآن الكريم أمرهم من دون أسمائهم، مثل ما في قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [سُورة "المائدة"، الآية: 70].
بل إن موسى (عليه السلام)، لمجرد أنه حاول الخروج ببني إسرائيل من مصر، فقط الخروج بهم وقتما كان الإيمان لا يزال فيهم، تعرض لمطاردة من فرعون وجنوده لقتلهم.
من المعالم المهمة كذلك للتكليف، والمهم إدراكها في هذه المرحلة بالذات من تاريخ المسلمين، هي الجماعية، حيث إن مختلف التكاليف والأوامر التي أقامها الله سبحانه في كتابه، وأكدت عليها الممارسة النبوية التي تُعتبر هي شروح وتفصيل للنص القرآني في كثير من الأحيان، كلها نلحظ فيها الجانب الجماعي، فالصلاة جماعة يصل التأكيد عليها لمستوى الفريضة عند بعض العلماء.
إن مختلف التكاليف والأوامر التي أقامها الله سبحانه في كتابه، وأكدت عليها الممارسة النبوية التي تُعتبر هي شروح وتفصيل للنص القرآني في كثير من الأحيان، كلها نلحظ فيها الجانب الجماعي
وشاءت حكمة الله تعالى في تأكيد نبيه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" على ذلك، أن وقت كل صلاة يتيح لكل مسلم أن يؤديها وحده، في نقطة زمنية منفردة، بينما صيام رمضان والحَج، عبادات جماعية؛ إذ إنه بطبيعتها تفرض أن يقوم بها المسلمون في ذات الوقت.
وحتى الزكاة بأنواعها، والتي قد تبدو أنه يمكن أن يقوم بها كل مسلم وحده، فإن هدفها هو خدمة جماعة المسلمين، وبعض أنواعها، مثل زكاة الزروع والثمار، تخص جماعات من المسلمين من الزُّرَّاع وأصحاب الأرض.
وفي الأوامر والنواهي القرآنية، نلاحظ أنها قد جاءت جميعها بصيغة الجمع، و"آتوا" و"افعلوا"، وغير ذلك من الصِّيَغ، وما كان منها بصيغة المفرد، فإنما كان موجَّها للرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وهو أمر بطبيعة الحال، يعني عموم المسلمين.
المعلم المهم الآخر الذي نتناوله في هذا الموضع هو الاستطاعة، ويأتي تناوله؛ لأنه –كذلك– من أهم أسباب عوامل وقوع الخلل الحالي؛ حيث إن الحماسة للعقيدة، والتطلع إلى معالي الأمور، مع الجهل الموضوعي بتعاليم الإسلام في هذه النقطة، تدفع الكثيرين إلى القيام بما يفوق طاقاتهم، وبالتالي يحصل الفشل، مما –في حال عدم فهم هذه النقطة– يثير تساؤلات كثيرة عن أسباب فشل جهد، هو خالص لله تعالى، وفي أمور الأمانة العظيمة الأهمية.
إن الحماسة للعقيدة، والتطلع إلى معالي الأمور، مع الجهل الموضوعي بتعاليم الإسلام في هذه النقطة، تدفع الكثيرين إلى القيام بما يفوق طاقاتهم، وبالتالي يحصل الفشل
والقرآن الكريم واضح في هذا الصدد، يقول تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [سُورة "البقرة"، من الآية: 286]، ويقول أيضًا: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [سُورة "الأنفال"، من الآية:60]، وهو أمرٌ كان في مدركات أنبياء ورُسُل الله تعالى من قبل، فيقول عز وجل على لسان هود (عليه السلام): {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [سُورة "هود"، من الآية: 88].
ومن المعالم القرآنية أيضًا المهم إدراكها في هذا الصدد، أن التوفيق والنتيجة على الله تعالى، فلا شأن للإنسان بما قدَّم الله تعالى وأخَّر في هذه الأمور. ففي آية "هود" المتقدِّمة مثلاً، قال هود (عليه السلام) لقومه بعد أن تكلم عن أن رسالته هي الإصلاح: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
ولكننا الآن –ويُعذر الناس بعدم علمهم– مَن يجادل اللهَ تعالى في ثمار العمل وتوقيتها، ولاسيما فيما يتعلق بأمور التمكين، أو استمرار الظالمين ظاهرين –ظاهريًّا– على أهل الإيمان، بناء على رؤية عقل إنساني قاصر، لا يصل إلى مثال ذرةٍ من حكمة الله عز وجل، فيقدرون أن ما يرونه هو انتصار للظالمين، وأن ظهور الظالمين على المؤمنين قد طال، بينما هي أمور في حساب الله عز وجل، لا تُعتبر لا انتصاراً للظالمين، ولا طول أجل لهم في انتصارهم، حتى بالمعيار الزمني البسيط.
وفي النهاية، فإن هذا الأمر نقدِّر أنه من أهم الأمور الواجب البحث فيها مطوَّلاً في هذه الفترة التي تشهد الكثير من الفتن لدى المسلمين، بشكل لم يسلم حتى منه المخلصون من أبناء الدين، والعاملين في مجال الدعوة؛ حيث إن تصويب المفاهيم في جذور منهج ما يقوم به الناس، وفهمهم لما يقومون به، وأدواته ومآلاته، إنما هو أساس أي نجاح، في أي مجال، ولا يوجد أهم من القيام بما رضينا كبني آدم القيام به من أعباء الأمانة العظمى.
وهذا الأمر كذلك افترضته حكمة الله تعالى كأحد صور ابتلاء عقيدة التوحيد. ففي آية "الأحزاب"، يقول تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا}، وهي –بالتالي– من خلال المنهج العقلي، تعني إشارة إلهية بأمرٍ مهم، وهو أنه إذا أراد الإنسان النجاح في حمل الأمانة، فإن عليه أن يعلم أولاً ما هي الأمانة، وكيف يحملها.