المتأمل في مصادر الشريعة الإسلامية من قرآن كريم وسنة نبوية، يدرك ما للدين من أثر بيّن واضح على القلوب والعقول، بل على مظاهر الحياة كلها بلا استثناء، وأنّ هذا الدين تنبعث به الحركة الدؤوب، فشعائره ليست وقفاً على طقوس يؤديها المتّبع له في وقت ما وبهيئة معينة، كلا بل تجده يبث الحياة في كل ساكن، ليحوّل العادات إلى عبادات يتقرب بها المسلم في كل وقت وحين على مدار الساعة بل الثانية، ليجعل من إماطة الأذى عن الطريق قربة من القربات على سبيل المثال.
والمنبهرون اليوم بكل ما هو غربي وما تشهده حضارة الغرب من تمدن، خطف وهج بريقها بصائرهم وبصيرتهم لدرجة غشيت الغشاوة على قلوبهم عن حضارتهم التي سبرت بجذورها الأعماق، وسطعت شمس حقيقتها في وقت كان يخيم ظلام الجهل على العالم بأسره، فأنساهم واقعاً مريراً فُرض علينا، ودُبر لنا في خفاء، وأنّ هذا الواقع رغم مرارته إلا أنه لن يحجب الحقيقة الضاربة في جذورها عمق الأرض، والملامسة بفروعها عنان السماء، وأنّى للشمس أن يحجبها الغربال.
فنصوص الشريعة الإسلامية تشع حيوية، وتبعث على الرقي والحضارة والتقدم، فالنصوص أكثر من أن يحصيها هذا المقال، وإنما استوقفتني بعض من النصوص وهي غيض من فيض، إذ يقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف، آية:31]، فهذه دعوة للاهتمام بالمظهر؛ إذ ليس لتركه وإهماله علاقة بالتدين، وسابقة للتركيز على الاهتمام بما من شأنه أن يريح النفس، فيكون المجتمع نظيفاً جميلاً انطلاقاً من حديث: (إن الله جميل يحب الجمال) (رواه الحاكم في المستدرك)، ويأتي التذييل للآية "لا تسرفوا"، فبجانب اهتمام الإسلام بالمظهر إلا أنه ينهى عن المبالغة حتى لا نصل لدرجة تذوب بها شخصياتنا، وننسلخ من جلودنا، فيوصلنا الإسراف إلى تغيير وتبديل خلق الله، وتصبح الوسائل غايات تنشد لذاتها ، وبالتوازي مع الاهتمام بالمظهر، لا بد من الاهتمام بالجوهر ودواخل النفس ومنابتها، (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم) (رواه ابن ماجه) ، فبهذا تكتمل الصورة، وتسير الحضارة قدماً على ساقين صحيحين لا عرج بهما، ويبصر الإنسان بعينين سليمتين لا عور بهما.
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة) (رواه البخاري في الأدب المفرد) وقال أيضاً: (إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا بيوتكم ولا تشبهوا باليهود التي تجمع الأكناف في دورها) (رواه أبو يعلى في مسنده) ، أليس هذا اهتماماً يتجاوز الفرد ليشمل المجتمعات!
والاهتمام لا يقتصر على العبادات المفروضة، كما أن العبادة لم تنحصر بصلاة أو صيام، إنها تمتد لتشمل النظافة، إنه الدين الشامل الذي ما كان له أن يغفل أو يتجاوز أي مساحة مهما صغرت في حياة الأفراد والجماعات، بل والأمة كلها.
ويمتد اهتمام الشرع بالأرض وإعمارها، ليبلغ ذروة اهتمامه بهذا المجال في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها) (رواه البخاري في الأدب المفرد)، حتى لو جاء ذاك اليوم الذي تنتهي به دورة الحياة على الأرض يا رسول الله! نعم ما دام فيك يا ابن آدم نفس، فعليك أن تقوم بإعمار الأرض، ولا تفكر لمن تزرع، فأنت مطالب بالعمل، ولو لم تشهد حصاد الزرع.
بقليل من التأمل بمثل هذه الشواهد تدرك أن التدين الحقيقي على الوجه الذي يطالبنا به الله لا على الشكل الذي ننتقيه ونتخيره نحن، يبعث الإنسان على الرقي ويدفع به للتحضر، وأنّ الرقي والتقدم يرتبط ارتباطاً طردياً مع التدين
بقليل من التأمل بمثل هذه الشواهد تدرك أن التدين الحقيقي على الوجه الذي يطالبنا به الله لا على الشكل الذي ننتقيه ونتخيره نحن، يبعث الإنسان على الرقي ويدفع به للتحضر، وأنّ الرقي والتقدم يرتبط ارتباطاً طردياً مع التدين، وأنّ القلب الذي ارتوى من تعاليم الدين يفيض على نفسه ومن حوله جمالاً في الخِلقة والخُلق، وكلما التزم به وتعلق بربه خطا خطوة في معراج الارتقاء، بل وتجده يفيض حباً للأرض ومن عليها، فالبشر كلما تعلّقوا بالسماء وسمت قلوبهم وأرواحهم، تخلصوا من أوحال الطين الأرضي، والشاهد على ذلك الحقبة الزمنية التي عاشها الرعيل الأول من الصحابة، فبعدما كان القوي يأكل الضعيف منهم، وتطغى على معالم حياتهم حياة الغاب، قفزوا قفزة ما زال التاريخ يشهد لهم بها بعد أن أشرقت شمس الإسلام على قلوبهم وأرواحهم، وغيروا مجرى التاريخ، وشهد لهم العدو قبل الصديق.
إنه الإيمان يبعث فيك طاقة إيجابية؛ إذ بالإيمان تتوسع مداركك، ويتجاوز نظرك حدود الواقع لترسم المستقبل الذي تأمل وتنشد ، فيبقى الأمل فيك مورقاً نحو مستقبل مشرق، وأنت على يقين بأن ما تزرعه في حاضرك ستجنيه غداً، فترتقي بقلبك وفكرك وشعورك، وتندفع بكل قواك؛ لتعمر الأرض وفق سنن الله؛ لأنك تدرك أنّ أثر إعمارها عائد عليك قبل غيرك.
وإعمار الأرض يتطلب نفوساً عامرة يانعة، فالنفس التي يعيث بها الفساد ويعبث بها الخراب لهي أوهن من أن تضع لبنة فوق أختها، وما انتكاسات الأمم اليوم وتقهقر رقيها وحضارتها إلا نتيجة الخلل في التلقي عن رسالة السماء.
والحضارة أشمل من أن نحتكرها في الجوانب المادية، فحضارة تشهد تخلفاً في سلوكياتها وأخلاقياتها لا يغني تقدمها المادي عن ذلك شيئاً، وهل ما تعانيه الأمم اليوم من أزمة في أخلاقياتها وإنسانيتها وانطماس في فطرتها إلا دليلاً على تراجع وجه مدنيتها وحضارتها؟! وإن صدّروا لك غير ذلك.