النّفس التَّوَّاقَة

الرئيسية » خواطر تربوية » النّفس التَّوَّاقَة
large_loving-muslims-begins-with-honesty-9x8ifhrf

تخيّل لو قيل لك إنك ستُعطى مال قارون وجاهَه، وتعيش في الدنيا عيشة الملوك وكل ما يمكن أن تشتهيه ستجاب إليه، شريطة أن تكون هذه الدنيا هي آخر المطاف بالنسبة لك، ويكون الموت عين الفناء، فلا آخرة ولا خلود. أكنتَ تقبل بهذا وتسعد بعاقبته؟ أم كنت لتستاء منه وترفضه لأن مآله لفناء محقق لا عودة بعده؟

إن في قوائم المنتحرين والمكتئبين من أصحاب الأموال والجاه ومن حازوا الدنيا من أطرافها، ما يدفع للتفكر في زيف ربط سعادة النفس وانشراحها وسعتها بحيازة الدنيا للدنيا، وعيش الحياة لذاتها. إنها لم ترد كذلك ولم ترد لذلك، فمن يتعامل معها كذلك يخالف طبائع الأشياء وسنن الوجود ومقاصده.
ما لا ننتبه له ونحن نجري لاهثين وراء قشور السعادة ووهم الاستقرار والرخاء، منهمكين في الدنيا انهماك من لا حياة له بعدها، أنها إنما سميت دنيا من الدنو، وفيه من معاني القرب والتدني معا بحسب نهج صاحب الدنيا في صحبتها. وقد فَطَرَنا الله على نفس توّاقة، فحقيقة أشواقنا ورغائبنا معلقة بذلك الخلود الأخروي، والنعيم الذي لا ينقطع، هذا جوهر تطلعاتنا وقمة أشواقنا . هذا الذي في سبيله تنقلب كل مشقة لذة، وبغيره لا يمكن لأي لذة مجردة إلا أن تكون شقاء.

ولنتأمل في هذه الوقفة مع الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله:

قال رجاءُ بنُ حَيَوَة: أمَرني عُمرُ بن عبد العزيز أنْ أشتريَ لَه ثوباً بِستّةِ دَراهم، فأتيتُه به فَجَسَّهُ، وقال: هو على ما أحبُّ لولا أنَّ فيه لِيناً.

فبكى رجاء، فسأله: ما يُبكيك؟

قال: أتيتُكَ وأنت أمير - قبل أن يُصبح الخليفة-، بِثوبٍ بستمائةِ درهم، فَجَسَستَهُ، وقلتَ: هو على ما أحبُّ لولا أن فيه خُشونَة. وأتيتُكَ وأنتَ أميرُ المؤمنين، بثوبٍ بستةِ دراهم، فجسَستَه، وقلت: هو على ما أحب لولا أن فيه لِينًا!

فقال: يا رجاء، إنَّ لي نفسًا توّاقة، ما نالَت شيئًا قطّ إلا تاقَتْ إلى ما هو أعلى منه: تاقت إلى فاطمةُ بنت عبد الملك فتَزَّوَجتُها، وتاقت إلى الإمارة فَوليتُها، وتاقت إلى الخِلافة فأدركتُها، فنلت بذلك غايَةَ ما في الدنيا. فنَفْسي الآن تتُوقُ إلى غايَة ما في الآخرة، إلى الجنة، فأرجو أن أُدركَها إن شاء الله.

لقد فطرك الله على نفس توّاقة، فإما أن تأخذها بعزم وقوة فتنجح وتفلح، أو غير ذلك فتشقى وتخسر. ليس من حل وسط ولا اختيار ثالث، وكل مجزيّ بعمله محاسب على اختياره، وإنما الموفق من وفقه الله تعالى.

لقد فطرك الله على نفس توّاقة، فإما أن تأخذها بعزم وقوة فتنجح وتفلح، أو غير ذلك فتشقى وتخسر

وإنّ من مِنّة الدين على من دان به حقًا أن رؤيته للكون تغدو أوضح وحركته فيه أصح. فعندما تكون مسلمًا، لا يعود عليك اختراع فهم لهذا الوجود ولا سنّ قوانين له بنفسك. وإنما يكون عليك الاشتغال برسالتك الوحيدة في الحياة: أن تكون عبدًا لله. ثم رسالتك المخصوصة أن تكون عبدًا لله في سياقاتك المخصوصة ودوائر معاملاتك التي أوقفك الله فيها، ومجالك العلمي أو العملي المعيّن الذي يهديك إليه. وإن الله الذي خلقك هو الذي يهديك لما يسّرك لعمله حين خلقك ، وإنما غاية ما عليك أن تشتغل بالاستعانة بالله على أمره وطلب ما عنده به.

وكل عمل – مطلقًا - تقوم به في ظل تلك المنظومة داخل بالضرورة في مهامك الوجودية وحسابك من بعد. فليس في ميزان الله عمل جماهيري وعمل خاص، أو مشهور ومغمور، بل عمل خالص أو غير خالص، يقظ أو غافل. والله تعالى يُعبد بالمسؤولية لا بالبطولة .

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …