تذكير الموجود بقصة الوجود

الرئيسية » خواطر تربوية » تذكير الموجود بقصة الوجود
muslim-man-praying-ocean-sea

ألا ترى حين نتعامل في حياتنا اليومية مع مختلف المنتجات حولنا، يكون أول ما نسعى لمعرفته هو طبيعة تكوينها ووظيفتها؟ معرفة طبيعة التكوين أو التركيب تعين على حسن التعامل الصحيح معها، فإذا كانت مصنوعة من قماش مثلاً يمكن غسلها بالماء، أما المعدن فيُكتفى بمسحه، والزجاج يتطلب حفظاً بصورة معينة لئلا ينكسر، بخلاف المصنوعات الخشبية، كذلك معرفتك بوظيفتها تحديداً يجعل توقعاتك منها في محلها، وفي حدود ما صنعت له.

فأنت لا تتوقع من هاتفك المحمول –مثلاً– تشغيل نفس البرامج والتطبيقات التي يستطيعها جهاز الحاسب، ولا من الملعقة أن تقطع، ولا من السكين أن تغرف، وتعتمد في المقام الأول لمعرفة هذه الأمور على الكتيب أو الدليل الإرشادي للاستخدام المصاحب له، ولا تشكك فيه؛ لأن واضعه هو صانع ذلك المنتج، فهو أدرى الناس بصنعته.

فحين نأتي للتعامل مع جوهر وجودنا وحياتنا، ألا يكون من المنطقي أن نبدأ أول ما نبدأ في معرفة طبيعة هذه الحياة، وغايتها ووظيفتها، ودورنا منها ومكاننا فيها، فنعرف من ثم كيف يكون التعامل الصحيح، والتوقع المرجو منها ومنا؟ وإذا كنا نبحث عن الفهم الصحيح لهذا الوجود، أفليس من المنطقي أن نستقي الفهم ممن أوجده ابتداء؟ 

عجباً لتلك الرِّحال التي تُشَد في الليل والنهار بحثاً عن السعادة والحياة الطيبة والراحة النفسية، فما بَلَغَتها ولن تبلغها؛ لأنها تبحث عن قبلة بغير بوصلة، أو كما قال الشاعر في الإبل التي تحمل الماء على ظهرها في الصحراء، فلا ترتوي على قربه منها:

كالعِيسِ في البَيْداء يقتلها الظَّمَا... والماءُ فوق ظُهورها مَحمول

عجباً لتلك الرِّحال التي تُشَد في الليل والنهار بحثاً عن السعادة والحياة الطيبة والراحة النفسية، فما بَلَغَتها ولن تبلغها؛ لأنها تبحث عن قبلة بغير بوصلة

• قصة الخلق:

خلق الله تعالى الإنسان، وفطره -أي طَبَعه- على طبع معيّن وتكوين نفساني خاص، لا يستقيم حاله إلا حين يكون متسقاً مع ذلك الطبع، موافقاً له، تماماً كالترس الذي لا يستقر إلا عند موافقة موضعه المحدد في أي آلة، هذا الطبع أو هذه الفطرة هي توحيد الله تعالى، والإقرار به خالقاً ورباً وإلهاً، وما يلحق بهذا التوحيد من قابلية القيام بما سيترتب عليه من تكاليف، والتناسب مع ما سينبني عنه من تصورات ومفاهيم عن سنن الكون وطبائع الأشياء، وغاية الوجود، أقر بذلك من أقر، وجحد من جحد، تلك خلقة الله التي قدّرها وسوّاها.

ومن ثَم، كان لا بدّ من دليل منهاجي أو "كتيب إرشادي"، يشرح طبيعة هذا التكوين، ويصونه ويزكيه، ويبين في ذات الوقت ما قد يقع فيه من عطب وأعطال، وكيفية التعامل معها، ويوضح طريقي الخير والشر، والاستقامة والانحراف، وعاقبة كلّ في الدنيا والآخرة، هذا الدليل هو الدين الذي ارتضاه الله الخالق لخلقه منهاجاً إرشادياً في عبور هذه الحياة وصولاً إليه.

وإذا كان لا يُعقل أن تَستقي من وصفة طعام طريقة تشغيل الغسالة، فكذلك بارئ هذه الفطرة وخالقها هو الذي أنزل معها هذا الدليل، فلا ينصلح حالها بغيره، وله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم، ولذلك وُصِف هذا الدين بالقيّم، أي الحافظ للفطرة ،والقائم على أمرها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم، الآية:30]. وهذه هي هداية الدلالة والبَيان التي شملت الناس جميعاً، لم يحرم منها أحد، وإن تفاوتوا في الحرص على معرفتها، أما هداية الإعانة والتوفيق للخير فيختص الله بها الصادقين: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن، الآية:11].

• حرية الاختيار:

وعلى خلاف أي مصنوع أو مخلوق لا يملك أن يتوسع خارج حدود ما صنع لأجله وأُوجد له، تفضّل الله تعالى وجعل للإنسان حرية إرادة واختيار، فالفطرة كما شرحناها لا تعني قهر الإنسان على اختيار وسلوك نهج الخير والاستقامة، أو الشر والانحراف، بل تعني أنه مطبوع على توحيد الله، ومهيئ للانسجام مع أمره، بحيث لن يطمئن ويسعد حقيقة حتى يوافق علمه وسلوكه ذلك، ثم تفضّل الله سبحانه وأتاح للإنسان أن يختار إما الاتساق مع تلك الفطرة، فيسعد ويأنس ويفلح، أو معاكستها فيشقى ويتعس، بغض النظر عن الظواهر المادية، ومن ثَم فحريّة الإنسان هي التي اقتضت مسؤوليته ومحاسبته عن تلك النعمة وعواقب اختياره، فهي إذن حرية مسؤولة، أي أن صاحبها يسأل ويحاسب عن اختياراته، ومسوؤلية الإنسان هذه هي جوهر إنسانيته وكرامته؛ لأن الحيوانات والجمادات والأشياء ليست مكلّفة ولا مسؤولة.

• ميدان اختبار الاختيار:

صار لدينا الآن إنسان مفطور على طبع معين، ومنهاج متكامل وضعه خالقه له، بيّن له فيه كل ما يحتاج لإقامة أمره، وحرية اختيار في الاستجابة للمنهاج، وموافقته أو الحيود بدرجات، يتبقى ميدان عملي لتفعيل المنهاج واختبار الاختيارات، وهذه هي الحياة الدنيا، ولأنه ستكون هنالك تبعات للاختيارات وعواقب للقرارات التي يتخذها الإنسان، كانت الدنيا امتحاناً مؤقتاً، فهي اختبار لاختيارات الإنسان وعمله، ومؤقت أي محدود بزمن مهما طال، ومن ثم فالدنيا معبر لا مستقر، وهي في أصلها بداية الحياة وليست نهايتها.

وكان من تمام الامتحان وطبيعة الاختبار، أنْ قدّر الله تعالى بحكمته عوامل تأثير على الفطرة وصورتها الأولى، يتنوع تأثيرها بين الإفساد والتهذيب: كالبيئة والتربية والمغريات والوساوس والهوى... إلخ، فتكون من ثم رحلة المجاهدة في سبيل الاستقامة على أمر الله بين التقوى والتزكية في الدنيا، والحساب بناء على جدية تلك المجاهدة في الآخرة. فمشقة الرحلة نابعة حقيقة من مجاهدة المؤثرات المُفسِدَة، لا من معاكسة فطرة الإنسان ، فالله تعالى لم يكلف –مثلاً- بغَضّ البصر، وحفظ الجوارح، والالتزام بالفرائض، وأكل الحلال، وترك الحرام وكافة التكاليف، إلا وقد خلقنا قابلين وقادرين على ذلك، فهذا هو معنى "الوُسع"، لكن الهمم والعزائم هي التي تفتر أو تضعف، بحسب المؤثرات التي يتعرض لها، ومدى استسلامه لها، وبحسب جدية الفرد عامة في أخذ حياته بقوة، وتحمّل مسؤولية وجوده، ومدى وعيه بعواقب اختياراته وتبعاتها.

وعلى ذكر الامتحان، من طرائف ما يذكر في تصحيح الاختبارات المدرسية نقتطف هذين النموذجين:

• س: ما حكم النكاح؟ مع الدليل؟
ج: محرّم! والدليل: {إنّما المؤمنون إخوة} [الحجرات، الآية:١٠].

• س: علل لما يلي: ندرة الأمطار في النصف الغربي من أستراليا؟
ج: لأنها مشيئة الله!

هذه الإجابات على طرافة فيها أو سوء فهم، نجد أنها وقت المحاسبة والتصحيح مخالفة للإجابة النموذجية، ولا تصب أصلاً في صلب الموضوع، بغض النظر عن نية المجيب أو عذره، فليس من مفر في احتسابها خطأ، هكذا امتحان الدنيا: مهما بدت إجابات البعض إبداعية، ومهما ظهر أنهم حصلوا من أسباب النجاح الدنيوية، تظل العبرة في النهاية بالإجابة النموذجية، أي التي تجتهد أن تسدد وتقارب وفق تشريع ومنهاج واضع الامتحان والمجازي عليه.

مهما بدت إجابات البعض إبداعية، ومهما ظهر أنهم حصلوا من أسباب النجاح الدنيوية، تظل العبرة في النهاية بالإجابة النموذجية

الفارق أن امتحانات الدنيا يمكن تعويضها في أدوار تالية، لكن امتحان الدنيا مرة واحدة، فإما رسوب أو فلاح ، هذه هي الحياة على الحقيقة، ومهما غرّتنا فتعاملنا معها على أنها نهاية الأماني وغاية المُنى، فحقيقتها أنها بداية لا نهاية، بداية لحياة لا اختيار فيها من بعد، وإنما جزاء على الاختيار، جزاء خالد لا ينفك عن الإنسان أبداً، غير مؤقت بزمن ولا محدود بحد! وصدق سيدنا علي كرّم الله وجهه : "الناس نِيَام، فإذا ماتوا انتبهوا".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

ماذا لو علمت أنه رمضان الأخير! (1-2)

إن الإنسان الذي يكون لديه عمل دنيوي مهم لا يشعر بطعم الراحة ولا باطمئنان القلب …