في بداية كل عام هجري يستذكر المسلمون ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، تلك التي مثلت قفزة هائلة نحو تمكين المشروع الإسلامي، بعد سنوات من الاستضعاف والتضييق.
ما جعل للهجرة أهمية خاصة في تاريخنا هو حالة الانتقال من تلقي الضربات والمطاردة والتعذيب إلى مرحلة بات فيها المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم يضعون الأطر العامة للدولة الإسلامية، وكيفية حمايتها، وطرق نشر دعوتها المباركة بين الناس.
وكل ما حصل عليه المسلمون من مكاسب بعد ذلك، هو نتيجة لتلك الهجرة المباركة، فلا يمكن أن يتحقق التمكين للمسلمين في ظل حالة من الاستضعاف والتشرذم ، بل يحتاج إلى دولة ذات سيادة، تنعم بالحرية، والقدرة على برمجة المبادئ والتعاليم إلى واقع معاش، بحيث يقبل عليها الأفراد ويطبقونها في شؤون حياتهم بإرادتهم ودون تضييق من أحد.
البحث عن مخرج
حينما نعود إلى الفترة المكية، نجد أنها اتسمت بمجموعة من الصفات التي دعت إلى ضرورة التغيير والبحث عن مخرج من التضييق ومصادرة الحرية من قبل قريش، ومنها:
- عدم مناسبة المجتمع المكي -بعمومه- لتقبل الدعوة، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو ابن مكة، وابن قريش، ونسبه معروف عندهم، وهو الصادق الأمين، والذي لا يشك أحد في قريش بنزاهته وصدقه، إلا أن المجتمع -على الأقل بوجهائه وأصحاب النفوذ فيه- كان ملتفاً حول مصالحه، مصالح العشيرة والجاه والمال، والتي تجاهل فيها المنطق والحجة التي اتسمت بها الدعوة الإسلامية، وبلاغة وإعجاز القرآن الكريم التي لا يدانيها شك البتة عند كل ذي لب.
- ضياع صور الحرية والكرامة في سبيل الحفاظ على المصالح الخاصة بهم، فهم لم يتوانوا عن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم رغم نسبه الشريف، ومكانته عندهم، ولم يألوا جهداً في تعذيب أصحابه بل وقتل بعضهم، وكل ذلك ليس لإيمانهم بخطأ الدعوة، فالقضية ليست قضية حجة أو برهان، بقدر ما هو خوف على ضياع المصالح. فالحرص على المصالح يدفع صاحبه لارتكاب كل شيء بما فيه ترك الحق والإيذاء بل والقتل أيضاً. وقريش كانت تعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي الأمة، لكن لأجل مصالحها رفضت الإيمان به وكانت أول من حاربه ووقف في وجهه. والدليل ذلك ما قاله أبو جهل للأخنس يوم بدر حين سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال له الأخنس: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد؛ أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا. فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟
الحرص على المصالح يدفع صاحبه لارتكاب كل شيء بما فيه ترك الحق والإيذاء بل والقتل أيضاً
- تجاهل العرب لما حل بالمسلمين من اضطهاد وتنكيل، فهم يشتركون مع قريش بنفس الثقافة السائدة، تلك القائمة على المصلحة والالتفاف حول العشائرية، ناهيك عن أن قريشاً كانت راعية البيت الحرام، فكانت مصالحهم الضيقة مقدمة على الوقوف مع المظلوم الذي يعذّب ويحارب لأجل دعوة لا تدعو إلا إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام وتدعو إلى كل ما فيه خير من السلوك والأخلاق. وما سكوتهم عن مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعموم آل هاشم في شعب أبي طالب إلا مظهر من مظاهر ذلك.
- إصرار قريش على كفرها، رغم زيادة عدد المسلمين -ولو ببطء- ورغم حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يوصل الرسالة لهم جميعاً، سراً وجهراً، ليلاً ونهاراً، ورغم تحديهم له في أكثر من موقف، وإثبات أنه النبي المرسل لهم، إلا أن الطريق بات مسدوداً، وبات أكثر صعوبة خصوصاً بعد عودته صلى الله عليه وسلم من الطائف، وما لاقاه منهم من رد بذيء ومخز.
إن كل ما سبق، إضافة إلى زيادة الأذى بالصحابة، والسعي إلى فتنتهم في دينهم، وقطع الأرحام كلها أمور دعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى البحث عن مخرج بعد سنوات عصيبة عاشها الصف المسلم. فلم يكتف النبي بالدعاء وتثبيت الصحابة ودعوتهم إلى الصبر فحسب، فصحيح أن المسلمين على الحق، لكن السكوت عن الوضع القائم، في ظل انسداد الأفق نظراً لطبيعة قريش ومجتمعها، هو قتل للدعوة في النهاية، وتحميل لأفرادها فوق ما يطيقون.
السكوت عن الوضع القائم، في ظل انسداد الأفق نظراً لطبيعة قريش ومجتمعها، هو قتل للدعوة في النهاية، وتحميل لأفرادها فوق ما يطيقون
ولهذا بدأت رحلة البحث، بالهجرة إلى الحبشة، لحماية جزء من المسلمين من بطش قريش، وإيجاد بيئة آمنة لبعض أفراد الدعوة، ثم الذهاب إلى الطائف، وعرض الإسلام على وفود العرب القادمة إلى قريش، إلى أن عقدت بيعة العقبة مع الأنصار رضي الله عنهم، ومن ثم تمت الهجرة إلى المدينة المنورة، وتأسيس دولة الإسلام هناك.
الحلول لا يجب أن تتوقف!
إن الهجرة النبوية تعطينا درساً هاماً في السعي لتغيير الواقع ورفع الاضطهاد والظلم، فليس من منهج الإسلام الركون والسلبية وتلقي الضربات الواحدة تلو الأخرى، ثم دعوة الآخرين إلى الصبر والتحمل دون وجود تحرك حقيقي لرفع الظلم أو تخفيفه على الأقل.
ليس من منهج الإسلام الركون والسلبية وتلقي الضربات الواحدة تلو الأخرى، ثم دعوة الآخرين إلى الصبر والتحمل دون وجود تحرك حقيقي لرفع الظلم أو تخفيفه على الأقل
بالإضافة لذلك فعلى أصحاب المشروع الإسلامي أن يدركوا جيداً أن الإيمان والثبات على المبدأ وحده، لا يحقق النصر طالما أنه كان مفصولاً عن الحركة والسعي الحثيث لتمكين هذا الدين ، وجهاد الظالمين ورفع الظلم عن أهل الدعوة خصوصاً والمجتمع عموماً.
لا يعني أنني أقصد الهجرة من ديارنا، فلا هجرة بعد الفتح كما جاء في الحديث الشريف، ولكن العبرة بالبحث عن الحلول والخروج من المشكلات بما لا يتنافى مع ثوابت الدعوة التي لا تتغير.
وهذا الأمر يتطلب مرونة سياسية، وقدراً كبيراً من المناورة والقدرة على مفاجأة الظالم والخصم، فقريش لم يخطر ببالها أن يهاجر المسلمون إلى الحبشة، ولم يخطر ببالها أن ينجح النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، رغم تعقيد المشهد هناك، حيث الاقتتال القديم بين الأوس والخزرج، ووجود اليهود، وكذلك المشركين. لكنها البراعة السياسية التي تحلى بها النبي صلى الله عليه وسلم في سعيه من الخروج من أزمة التضييق والاضطهاد.
إننا لسنا مطالبين بضمان النتيجة، لكننا مطالبون بالبحث عن المخرج والحل ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يلق استجابة من غالبية من عرض عليهم الإسلام رغم صدق دعوته، لكنه لم ييأس حتى نجح وكون دولة الإسلام في المدينة.إن الكف عن المحاولات هو منهج مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والركون ورفع اليدين بالدعاء فقط دون القيام بأي شيء تجاه ما يجري من اضطهاد ومصادرة لحقوق البشر وكرامتهم هو جريمة يسأل عنها كل مسؤول يوم القيامة، ماذا قدم، وكيف تعامل معها!