ظهرت الصحوة الإسلامية، سواء في نسختها المعاصرة، أو في تجاربها المختلفة عبر التاريخ الإسلامي من أجل أهداف محددة تشترك فيها مختلف التجارب الصحوية الإسلامية عبر التاريخ، وعلى رأسها، إعادة ربط المسلمين بدينهم، وفهمهم له بشكل صحيح، وكيفية استعادة الأمة لخيريتها ونهوضها مرَّة أخرى، في كل فترة من فترات الانحطاط الحضاري التي كانت تمر بها.
وبالرغم من تعدد مدارس النظر إلى هذه القضية، سواء في توصيف الواقع وأسبابه، أو طرائق التعامل معه، إلا أنها اتفقت على أن مبدأ الأمر ومنتهاه، هو أن التعامل مع المأزق الحضاري الذي تمر به الأمة، لن يكون إلا من خلال القرآن الكريم.
وفي القرآن الكريم، بجانب تعاليم الشريعة التي ارتضاها الله عز وجل لعباده، نجد الكثير من قواعد العمران بالمفهوم العلمي الواسع للعمران، والتي يمكن أن ينهض على أساسها بنيان متين من النهضة والحضارة.
وتشمل هذه الجوانب الكثير من التبويبات الموضوعية المتنوعة التي قام علماء كثيرون بتصنيف آيات القرآن الكريم إليها، فهناك آيات الأحكام، والتي هي من أهم ما يكون في إنهاض العمران الاجتماعي، في مجال الأخلاق والأسرة والمعاملات، وهناك القصص القرآني الذي يعطي صورة وافية عن عوامل قيام ونهوض الأمم، وكذلك هلاكها، وغير ذلك من التبويبات.
ومن بين الآيات اللافتة في القرآن الكريم عن هذا الأمر، قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سُورة "الأنعام" - الآية 161].
وفسَّر علماء ثقاة، ولغويون عبارة "دِينًا قِيَمًا" الواردة في الآية، بمعنى أنه ذلك الدين الذي تقوم بقواعده أمور الناس وشؤونهم، كما في القرطبي، وفي القاموس "المحيط" و"لسان العرب"، وغير ذلك.
وهي آية بخلاف أنها تكشف التناول القرآني لقضية النهضة بمعناها الواسع، وأهمية الدين في هذا الصدد، أي في شأن ضبط أحوال الناس بالشكل الذي يعينهم على تحسين أحوالهم والقيام بأمورهم؛ فإنها كذلك تشير إلى أن القرآن ذاته هو المعين الأول لذلك؛ حيث إن المصدر الأساسي لهذا الدين القيِّم، هو القرآن الكريم.
ويرى البعض أن إبراز هذه السمة في كتاب الله عز وجل، لا ينحصر أمام المسلمين فحسب، وإنما هو على أكبر قدر من الأهمية أمام غير المسلمين في ظل الحرب الراهنة التي يقوم بها خصوم الأمة من أجل تشويه الدين ومفاهيم العمل الإسلامي والمشروع الحضاري للإسلام بشكل عام، فهي إذا قضية دعوة في المقام الأول.
إبراز ما يتعلق بكتاب الله من قيم وأحكام، لا ينحصر أمام المسلمين فحسب، وإنما هو على أكبر قدر من الأهمية أمام غير المسلمين في ظل الحرب الراهنة التي يقوم بها خصوم الأمة من أجل تشويه الدين ومفاهيم العمل الإسلامي والمشروع الحضاري للإسلام بشكل عام
وفي هذا؛ فإننا نقف أمام أمور أساسية تكلم عنها القرآن الكريم، ووجَّه إليها تشكِّل فيما بينها منظومة متكاملة للنهضة والعمران، في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي الأمور المادية، التي تتضمن المعاملات وكذا، والمعنوية، التي تتضمن البنية الأخلاقية التي يقوم عليها كل ذلك.
والمجال الأول، هو العقيدة، وهو أمر مهم أن ندركه في سياق مختلف عن مفهوم أهمية العقيدة التقليدي كما نفهمه كمسلمين.
وهو أمر موجود في حالة حضارة أمة الإسلام؛ فإن العقيدة أو الإيمان الراسخ كما وضَّح القرآن الكريم؛ كانت هي –وفق الكثير من المؤرخين والعلماء- أهم عامل ساهم في القيام والرسوخ السريعَيْن لدولة الإسلام الأولى، ونجاحها في تسيّد العالم القديم بالكامل صانعةً دولة العدل والرخاء التي قضت على إمبراطوريات الظلم والاستعباد، في عقود قليلة من الزمن، بشكل لم تحققه أية قوى أخرى عبر التاريخ.
العقيدة أو الإيمان الراسخ كما وضَّح القرآن الكريم؛ كانت هي –وفق الكثير من المؤرخين والعلماء- أهم عامل ساهم في القيام والرسوخ السريعَيْن لدولة الإسلام الأولى، ونجاحها في تسيّد العالم القديم بالكامل
يلي ذلك البنيان الأخلاقي الذي ينهض على أساس هذه العقيدة، ويكون حلقة الوصل بينها في المجال الإيماني، وبين تطبيقها على أرض الواقع في صورة تعاليم تقوم على أساس العدل والمساواة والحرية في إطار منظومة الشريعة، مما يتيح الفرصة أمام المجتمع للانطلاق والبناء في ظل وجود أسس سليمة لبنائه.
وهذا يتصل بدوره بمجال آخر ورد صراحة في القرآن الكريم، وهو مجال "التمكين"، والذي أهم مقاصده إقامة الشريعة، وعبادة الله تعالى في الأرض.. يقول عز وجل: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سُورة "الحَج" – الآية 41].
وفي المقابل؛ فإن عدم القيام بواجبات وتكاليف هذا التمكين، يستوجب هَلَكَة القوم وهدم الله عز وجل للعمران الذي أقاموه، لأنه أقيم على الباطل، فلا شيء باطل مثل عدم القيام بعقيدة التوحيد، مهما كانت الإنجازات في المجالات الأخرى الدنيوية.
وهي سُنَّة واضحة في القرآن الكريم عندما تكلم الله تعالى فيه عن الأمم السابقة، وأسباب هلاكهم، ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [سُورة "الأنعام" - الآية 6].
ثم بعد ذلك، نجد الأمور العملية المهمة في مجال أية نهضة حضارية وفق ما أجمع عليه علماء الاجتماع والعمران عبر التاريخ، وهي الاستخلاف في الأرض.
وبجانب إقامة الشريعة وعبادة الله تعالى ونشر عقيدة التوحيد؛ فإن آيات القرآن الكريم التي تناولت قضية استخلاف الله تعالى للإنسان، ومهمته فيها؛ أشارت إلى ثلاثة نواميس أساسية، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالنهضة والبنيان الحضاريَّيْن، وهي:
- عمارة الأرض.. {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سُورة "هود" - من الآية 61].
- الإصلاح.. {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سُورة "هود" - من الآية 88].
- التغيير، والذي يكون إلى الأصلح والأكمل وفق ما عرضه القرآن الكريم من مظاهر الكمال.
وفي سُورة "النور" هناك آية من جوامع الكَلِم في هذا الأمر، وفيها يقول تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)}.
وفي دراسة له نشرتها مجلة "الشريعة والدراسات الإسلامية" الكويتية، العدد (94)، سبتمبر 2013م، يحدد الدكتور حامد بن يعقوب الفريح، أستاذ الدراسات القرآنية بكلية التربية في جامعة الدمام السعودية، دعائم عدة أتى بها القرآن الكريم أثبت التاريخ أنها أهم دعائم نهضة أية أمة.
وبدأها بتكريم الإنسان، ثم الحرية، والعدل، والإعلاء من قيمتَيْ العقل والوقت، والعمل المتقن، والعمل الجماعي، والأخذ بالأسباب المادية، ثم فهم قاعدة الجزاء من جنس العمل، والمشاركة بين الراعي والرعية، وصولاً إلى المجتمع الموحَّد، أو الوحدة الإسلامية في حالة أمة الإسلام، وكلها لها آيات تدل عليها في القرآن الكريم.
وعلى أبسط تقدير؛ فإنه في شريعة الإسلام؛ فإن العقل والبلوغ هما مناطا التكليف أصلاً، واستنبط العلماء ذلك من القرآن الكريم، بينما كرامة الإنسان ذكرها القرآن الكريم بوضوح؛ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [سُورة "الإسراء" - الآية 70]، فيما العدل في الأساس هو أساس استقرار الكون واستمراره في الأصل، وهكذا.
وكما تقدَّم؛ فإن التاريخ الإنساني العام، والتاريخ الإسلامي، يثبت أن دولة النبوة الأولى، ودولة عمر بن الخطاب (رضي اللهُ عنه)، وسائر النماذج الناجحة التي سارت على قاعدة النهضة القرآنية، والنموذج التفسيري الذي قدمه الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" لها في دولة المدينة؛ قد قامت على أسس القرآن الكريم حرفيًّا.
وفي الأخير؛ فإن إعادة اكتشاف كتاب الله تعالى من جانب المسلمين بهذا المعنى؛ يعني أنهم ليسوا مضطرين للبحث عن حلول لمشكلاتهم خارج دينهم ومرجعياتهم الأساسية ، وعلى رأسها القرآن الكريم، ويجيب بوضوح على سؤال كيف الإسلام هو – بالفعل – الحل لأزمات الأمة والإنسانية كافة.