عندما يكون الحديث عن التغيير وبناء الذات، يتوجس البعض من توتر العلاقة بأهلهم، لأسباب تنبع كلها من أصل واحد في الغالب، هو خشية عدم تفهمهم للتغيير، أو تقبلهم لحق الفرد في استقلالية بنائه الجديد لذاته، بما قد يخالف الأصول التي أقاموها في في بنائه الأول.
فيما يلي أعرض ثلاثة محاذير يُرجَى باجتنابها أن تُحسِن إيصال "صورة" التغيير لأهلك، بما يعينهم على تقبله وإفساح المجال له، وإن لم يفهموا أصوله أو يتفقوا معها تماماً.
1. المحاسبة: فأن يفتح الله عليك بفضله فتحاً ويتيح لك فهماً، هو نعمة تستوجب أقصى ما يمكنك من الشكر، بحسن بذله بل ونسبة الفضل فيه لله لا لنفسك ولا لذكائك ولا لجهدك، ومن ثَم فبناؤك لذاتك لا يعني أنك صرت قيّماً وحَكَماً على طرق بناء الآخرين، وإنما جُلّ ما يمكن أن تفعله هو أن تعرض عليهم أدوات بنائك بمنهجية مدروسة، وأن تحسّن إقامة بنيانك أنت، عسى أن يكون خير نموذج يدعو بلسان الحال إذا لم يؤثر لسان المقال، وحين تبلغ سن الرشد والتكليف، وتطّلع على وسائل التعلم والتهذيب، تصير أنت المسؤول عن تهذيب نفسك وتربيتها والقيام على شأنها، ولا يقلّل من مسؤوليتك تلك أن تغرق في دور الضحية، ولا يعفيك تقصير الآخرين في حقك من مسؤوليتك في حق نفسك، لذلك خير لك ولمن حولك أن تعكف على بنائك، وتدعَ عنك التجريح في بنايات الآخرين حولك، أو لومِ والديك –خاصة- ونقدِهم على ما كان منهم من تقصير أو قصور في حسن بنائك؛ إذ هما قدّما أحسن ما عرفا، وحسابهما على الله.
كُفّ عن لومِ والديك -خاصة- ونقدِهم على ما كان منهم من تقصير أو قصور في حسن بنائك؛ إذ هما قدّما أحسن ما عرفا، وحسابهما على الله
2. الصدامية: الإشكالية الكبرى لدى الأهل -خاصة الوالدين- في تقبل التغيير الذي يطرأ على أولادهم، تنبع أول ما تنبع من الجو الانفعالي الذي يُصدّره صاحب التغيير ، فإذا قمت تُحوّل كل اختلاف في الرأي إلى خلاف في الصميم بغير تفرقة، وكل فرصة حوار إلى شجار اتهامات ولوم وتجريح، وقتها تكون أنت المسؤول عن كراهية والديك لنمطك الجديد وعدم تقبله؛ بسبب النموذج الذي تصدره لهما بتعاملك. لك الحق أن تكون مختلفاً، لكن ذلك لا يستلزم أن تكون خلافياً، فالمطلوب الأدب في عرض الاختلاف، لا الصدامية في قَسْر تقبله، وإنك مأمور ببر والديك، أي الإحسان والتلطف والتذلل لهما، وليس بالضرورة ضمان رضاهما أو تفهمهما لكل قرار تقرره، أو منظور ترتئيه، لذلك فبرّ المعاملة دائماً في وسعك، وطالما أنك تتغير في الله ولله، فثق بأن الله لا يضيع عملك، وأنه -لا بدّ- مهيئ لك من القلوب موضعاً، وإنما راجع دائماً منهجيتك وأسلوبك في عرض ما لديك، ووازن مدى المصارحة وقدر الأخذ والرد في كل حوار أو نقاش بحسبه.
3. النِّدّيَّة: مهما يكن من أمر، تذكر دائماً أنك لست نِدّاً لوالديك، ولا ينبغي لك أن تكون ، فرّق بين ثباتك على موقفك، ومعاندتك لشخصيهما، فليس كل موقف وكل رأي يستلزم الاستماتة في الدفاع عنه، ورفض أي "تدخل خارجي" من طرفهما، كذلك مهما اختلفت وجهات النظر، لا يستقيم أن تعاملهما أو تشعرهما بأنهما دخيلان أو متطفلان على شؤونك الخاصة، وحريتك الشخصية! فكما لك حق في شأن نفسك، فلهما كذلك حق في شأنك؛ لأنك في النهاية قطعة منهما، وثمرة نضال عمرهما، فكيف تريد لهما أن يتقبلا نفسياً انتزاعك لجذورك من التربة التي غرساها طوال تلك المدة، بغير تمهيد ولا توطئة، ولا حسن توضيح، وإنما المحصلة النهائية بأن لهما عليك حقاً أكيداً دائماً من حيث هما والداك، لذلك لا بدّ من التنبه لأهمية اللطف والمسايرة بما لا يخل بمبادئك ودينك، فلا طاعة في معصية، وكذلك لا معصية في معروف ما أمكنك.
ومفتاح القدرة على هذا التعامل أن تبذل لهما من حسن العشرة وجناح الذل ما ترى أنك أنت المحتاج لرصيده، فالوالد أوسط أبواب الجنة، وكما أسلفنا، لست محاسباً عن تقصير الآخرين في حقك، ولا ملوماً على ما يختارون لأنفسهم من سبل في الحياة، ولا مطالباً بإرضاء الجميع كل الوقت، كل ما أنت مطالب به هو مصاحبة بالمعروف في صبر جميل: بطيب الكلام، وجميل التواصي والتذكرة، وأدب الحوار والنقاش مع مراعاة المقال لكل مقام، وسعة الصدر والمسامحة والتغافل ما أمكنك.
لست محاسباً عن تقصير الآخرين في حقك، ولا ملوماً على ما يختارون لأنفسهم من سبل في الحياة، ولا مطالباً بإرضاء الجميع كل الوقت
واذكر قوله تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء، الآية: 25]، فهو رحمة مهداة لكل حريص على الإصلاح قاصد للبر والإحسان، لكن يقع منه ما يقع من بني آدم من زلل أو خطأ أو تفريط، إن الله الرؤوف الرحيم يربّت على تلك القلوب المجاهدة الصادقة، يطمئنها أنه سبحانه لا يضيع عمل عامل، وإن لم يتضح ذلك للخلق فهو بيّن عند رب الخلق والمجازي على ذلك.
وإنه ليسير على من يسّره الله عليه، وذلك لمن يصدق في معاملة الله والتقرب له بذلك البر وحسن العشرة، وإنما هذا ميدان امتحان كغيره، بل لعله من أهم ميادين الامتحان؛ لأنك لا تختار أهلك، وإنما هم اختيار الله لك، فهم محك لصدقك في طلب رضا الله تعالى، وباب عظيم، لذلك إذا اجتهدت في تحصيل مفاتحه، ولك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة: (خَيْرُكُمْ خَيْرَكُمْ لأهلِهِ، وأنا خَيْرُكُمْ لأهلِي) (الترمذي).