روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ"، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَجِيءُ الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيُجْرِبُهَا كُلَّهَا؟"، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟.
لكن توجد في الطب المعاصر قائمة طويلة بأمراض عديدة يمكن أن تنتقل من شخص مصاب بأحدها إلى من يخالطه أو يستعمل أدواته. وتعرف تلك الأمراض مجتمعة باسم "الأمراض المُعْـدِيَة". كما تُسمَّى الكيفية التي تنتشر بها الأمراض من المرضى إلى الأصحّاء باسم "العدوى". فهل يتعارض الحديث الشريف مع الطب الحديث؟!
لا عدوى:
العدوى اسم من الإعداء. يقال: أعداه الداء يُعديه إعداء، أي أصابه مثلُ ما أصاب صاحبَ الداء. وفي الطب، تستخدم كلمة العدوى بنفس دلالتها اللغوية، إذْ تعني سِرَايةَ المرض من المريض إلى غيره.
ومعنى قول النبـي صلى الله عليه وسلم "لا عدوى" أنّ المرض لا يتعدّى بنفسه، وإنما اللهُ سبحانه وتعالى هو الذي ينزل الداء. وكانت العرب تظن أن المرض يتعدّى بنفسه، كما هو واضح من سؤال الأعرابي في الحديث الشريف الذي سقناه في مطلع الكلام. فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمر ليس كذلك.
ولهذا كان ردّ النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي: "فمن أعدى البعيرَ الأول؟!"، أي من أين صار فيه الجَرَب؟ وجواب النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي هو من الإعجاز البلاغي الذي يتّصف به كلامُ نبينا عليه الصلاة والسلام. ذلك أن معناه: من أين جاء الجرب للبعير الأول الذي زعمتم أنه أعدى غيره؟ فإنْ كان جوابُهم أنّ الجرب انتقل من بعير آخر لَزِم التسلسل بلا نهاية، وإنْ كان جوابهم أن الجرب جاء من سـبب آخر، فما هو هذا السبب؟ وبهذه البلاغة النبوية المُعجِزة تحقق المفهوم الذي أراد رسول صلى الله عليه وسلم ترسيخَه في الأذهان، وهو أن البعير الأول لم تُجرِبْهُ العدوى، وإنما أَجْرَبَه قضاء الله تبارك وتعالى عليه بذلك. وقلْ مثلَ ذلك عن البعير الثاني والثالث... وهكذا دواليك.
لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ:
إن كان حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لا عدوى..." ينفي ما كانت تزعمه العرب من تأثير العدوى، فهناك أحاديث رُوِيت عن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفهم منها في الوهلة الأولى خِلافُ ذلك. مثال ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه، عن أبى هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ"؛ وكذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده: "فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ"؛ وما رواه الشـيخان عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون: "إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ، فلاَ تَقْدمُوا عَلَيْهِ، وإذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَ، فَلا تخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ".
في الحديث الأول أمر نبوي شريف بعدم مخالطة المريض؛ وفي الحديث الثاني أمر بالابتعاد بُعدًا شديدًا عن المجذوم، وهو المصاب بالجذام [مرض جلدي خطير متطاول الأمد، يتقطع منه الجلد واللحم ويتناثر ويفضي إلى الوفاة. (الجَذْمُ: القَطْع)]؛ وفي الحديث الثالث أمر بعدم دخول أرض إذا انتشر فيها الطاعون لمن خو خارجها، وكذلك عدم الخروج منها لمن هو داخلها.
هل يُستفاد من هذه الأحاديث النبوية الشريفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُثبِت وجود العدوى؟ وإذا كانت العدوى موجودة فعلًا، فكيف أكل النبي صلى الله عليه وسلم مع مجذوم في قَصْعَة واحدة؟ (كما روى الإمام مسلم في صحيحه، والنسائي وابن ماجه في سننهما من حديث الشريد بن سويد الثقفي).
أمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم إثباتٌ للأسباب، وبأن العدوى موجودة في الحقيقة! وفي أكل النبي صلى الله عليه وسلم مع المجذوم تنبيه وتعليم بأن الأسباب لا تستقلُّ وحدَها بالتأثير في مسبباتها، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي يودع الفاعلية في السبب فتحصل النتيجة. وقد يَسلُب الله سبحانه الأسباب تأثيرها فلا تفعل شـيئًا. فإذا بقي التأثير في الأسـباب فيكون بإذنه جلَّ وعلا.
أما حديث النهي عن القدوم على أرض فيها طاعون، والنهي عن الخروج من أرض ظهر فيها الطاعون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك مخافة الفتنة على الناس. فقد يهلك إنسان يقدم على أرض فيها الطاعون، فيظنّ الناس أن قدومَه كان سببَ هلاكه. كذلك إذا نجا مَنْ فَرّ من الطاعون، فقد يظن الناس أن فراره كان سبب نجاته! لهذا كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "الطَّاعُونُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَالْفَارِّ، أَمَّا الْفَارُّ فَيَقُولُ: فَرَرْتُ فَنَجَوْتُ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فَيَقُولُ: أَقَمْتُ فَمِتُّ! وَإِنَّمَا فَرَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ أَجَلُهُ، وَأَقَامَ مَنْ حَضَرَ أَجَلُهُ".
وأما حديث نبينا عليه الصلاة والسلام: "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ"، فمعناه أن مصاحبة المريض ومخالطته من الأسباب التي تترتب عليها نشوءُ العلة في بعض الأبدان بتقدير الله عز وجل. لذلك كان الاحتراز من مصاحبة المريض ومخالطته أخذًا بالأسباب وسدًّا للذرائع، مع اليقين بأنه "لا يغني حَذَرٌ عن قَدَر". إذْ قد يصاب إنسان بعلة دون مصاحبة مريض ولا مخالطته. وقد توجد المصاحبة والمخالطة دون حدوث العلة! وهذا المعنى تأكيد وبيان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى".
ولا طِيَرة:
الطِّيَرَة، بكسر الطاء وفتح الياء، هي التشاؤم، يقال تَطَيَّر طِيَرة. وأصل ذلك أن العرب زمنَ الجاهلية كانت إذا أبرمت أمرًا عمدت إلى طير فنفرته، أي جعلته يطير. فإذا اتجه الطير في أول طيرانه جهة اليمين سُمِّي سانحًا. وكانت العرب تستبشر بالسوانح، فتُقدِم على إنفاذ الأمر الذي أبرَمَت. وإذا اتجه الطائر جهة الشمال سُمِّي بارحًا. وكانت العرب تتطيّر (أي تتشاءم) من البوارح فتُحْجِم عن الإقدام على الأمر الذي أرادت.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التَّطَيُّر. فقد روى الإمام أحمد في مُسنده، والإمام مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ". وإنما عدَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم شِركًا لاعتقادهم أنها تجلب نَفعًا أو تدفع ضُرًّا. وليس ذلك لأحَدٍ إلا لله سبحانه وتعالى.
وكان رسول الله عليه وسلم يعلّم المسلمين حسن التوكل على الله سبحانه، وجميل التفويض إلى المولى جلّ وعلا، في الأمور كلها. من ذلك ما أخرجه أبو داود عن عروة بن عامر القرشي، قال: "ذكرتُ الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحْسَنُهَا الْفَألُ، وَلا تَرُدُّ مُسْلِمًا. فَإذا رَأى أحَدُكُمْ ما يَكْرَه فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لا يَأتي بالحَسَناتِ إلا أنتَ، وَلا يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلا أنْتَ، وَلا حوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِكَ". وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد: " اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ". فربنا جل وعلا بيده كل شيء، وهو الذي يأتي بالمصالح والنِّعَم، وهو الذي يدفع المصائب والبلايا. وكذلك ما رواه أبو داود من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدْوَى، ولَا طِيَرَةَ، ويُعْجِبُنِي الفألُ الصالِحُ، والفألُ الصالِحُ: الكلِمةُ الحَسَنةُ".
وعلاج التطيُّر (التشاؤم) يكون بالتوكل على الله سبحانه وتفويض الأمور إليه. وفي صلاة الاستخارة ودعائها المأثور ما يبعث الطمأنينة في قلب المسلم، ويوصد مسالك الشيطان التي يتسرب منها إلى النفس الإنسانية، فيوقعها في حبائل التشاؤم! وصدق الله العظيم حيث يقول في كتابه العزيز: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق: 3].
ولا هامَة:
الهامَة كل ذات سُـمٍّ يقتل، وجمعها هَوَامّ. والهامَة كذلك الرأس. والمراد بالهامَة في الحديث الشريف طائر من طيور الليل هو البومة، كانت العرب تتشاءم منه، وتظن أنه إذا نَعَق على بيت أحدهم فإنما يَندِب شخصًا من أهل الدار سوف يموت!
وقيل في شأن الهامة كذلك ما كانت تزعمه العرب من أن روح القتيل تسكن في جسم طائر يحوم حول أهل القتيل مطالبًا إياهم بالثأر! فإن ثأروا لقتيلهم بقتل قاتله، انصرف الطائر عنهم، وإلا استمر الطائر يحوم على رؤوسهم!
ولا صَفَر:
كانت العرب في الجاهلية تؤخّر شهر المحرم عن موعده إلى صفر، مع إحلال صفر مكانه، ليستحلوا بذلك مداومة الحروب التي كانت تقع بينهم. إذْ كان المُحرَّم من الشهور التي يحرّمون فيها القتال. فإذا أرادوا استمرار حرب بدّلوا الشهور! وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بلفظ "النَّسيء"، ومعناه التأجيل، وذلك في قول الله تبارك وتعالى: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [التوبة: 37]. فأبْطَل الإسلام الهامَة والصَّفَر لأنها معتقدات باطلة، يترتب عليها إشاعة الفوضى بين الناس، والخروج على طاعة وُلاة الأمور، واستباحة المُحرَّمات، ونشر الفساد في الأرض.
الخلاصة والفائدة:
من جميع ما تقدم، نخلُص إلى الفوائد التالية:
• العدوى حقيقة موجودة. ولكنّ المرض لا ينتقل من مريض إلى صحيح إلا بإرادة الله جلّ وعلا.
• من تمام الإيمان الاعتقادُ الجازمُ بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "اعلمْ أنَّ ما أصابكَ لم يكن ليُخطِئَكَ وما أخطأكَ لم يكنْ ليصيبكَ". ذلك أن أمور الكون كلها، صغيرها وكبيرها، تجري وفقًا لإرادة الله عز وجل، وبمقتضى حكمته وعدله ورحمته تبارك وتعالى.
• الأخذ بأسباب السلامة والعافية، وتجنّب الأمور التي يمكن أن تلحق بالإنسان وبيئته الضر والأذى. من ذلك: التحرز من دخول الأماكن التي تظهر فيها أوبئة، وعدم مخالطة المرضى بأمراض مُعدِية، وأخذ الاحتياطات اللازمة عند التعامل معهم، وإقرار الحجر الصحي الذي تطبّقه الدول حفاظَا على صحة مواطنيها.
• تجنّب التشاؤم والأوهام، والثقة بالله عـز وجل في كل وقت وحين، وتفويض الأمر إلى الله تبارك وتعـالى في كل ما يأخذ الإنسان من أمور الدنيا وما يَدَع.
• لا يتعارض الطب الحديث مع الحديث النبوي الشريف.
• استطردنا إلى بيان معنى قول نبينا عليه الصلاة والسلام: "ولا طِيَرة ولا صَفَر ولا هامَة"، إتمامًا للفائدة من هذا المقال.
والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
وصلَّى اللهُ وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى أهله وصحبه أجمعين.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- • القرآن الكريم: مختصر من تفسـير الطبري، لأبى يحيى محمد بن صمادح التجيبي، تحقيق محمد رضوان عرقسوسي، ط مؤسـسة الرسالة 1998م.
- • مختار الصحاح: للإمام محمد بن أبى بكر بن عبد القادر الرازي، ط دار الكتب العلمية، بيروت 1990م.
- • التأليف بين مختلف الحديث: د. محمد رشاد خليفة، مطابع مدكور، القاهرة 1982م.
- • سنن ابن ماجه: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1975م.
- • سنن أبى داود: إعداد وتعليق محمد محيى الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- • سنن النسائي: بشرح السيوطي وحاشية السندي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- • صحيح مسلم: تحقيق محمد فؤاد عبدالباقى، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- • فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لابن حجر العسقلاني، حققه مجد الدين الخطيب، رقمه وبوبه محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية، القاهرة ط 4، 1408 هـ.