حقيقة هذه الحياة أنها دار عمل وفتن، مجبولة على الأكدار، وهي أشبه ما تكون بورقة امتحان وقته يبدأ من سن التكليف، ويدق جرس النهاية كل حسب وقته وعمره، فمن حان أجله انتهى امتحانه!
ومن طبيعة هذا الامتحان كثرة الفتن التي تعرض لنا في آخر هذا الزمان، والتي لم يسلم منها السابقون، ومن شر البليّة وأكثرها وقعاً على النفس أن يظهر لك وبكثرة من يدعو لدين الله، فتجد في أسلوبه من حسن السمت ولين الخطاب ما يتبعه كثير من الخلق، لا سيما فئة الشباب، فتجده قد أصبح قدوة في كل تفاصيله، شهرته كالعلم برأسه شعلة نار، تسمع برامجه في الشارع والسيارة وفي أيقونات خاصة على المحمول، بل ويرتب كثير منا وقته وأشغاله على ألا تتعارض مع برنامج أو درس هذه الشخصية التي انتشر سيطها انتشار النار بالهشيم!
جميل أن يبلغ الدعاة هذه الدرجة من القرب لقلوب وأفكار الناس دون الاقتصار على فئة معينة، لكن المؤلم المبكي بهذا الأمر هو اعتقادنا بهم كشخصيات تمثل الدين الصحيح، فنتخذهم معياراً نعرف الحق بهم، ونجعلهم الميزان الذي نوزن به الأمور من خطأ وصواب، أو نحكم عليه بأنه من الشرع أو غير ذلك.
المؤلم المبكي هو اتخاذ بعض الدعاة كمعايير نعرف الحق بهم، ونجعلهم الميزان الذي نوزن به الأمور من خطأ وصواب، أو نحكم عليه بأنه من الشرع أو غير ذلك
أن تُعظم بشراً -لدرجة التقديس- معرض للخطأ والصواب، بل مجبول على حقيقة لا يختلف عليها اثنان، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون) (رواه الحاكم في المستدرك) فهذا من المصائب التي بليت بها أمتنا وشبابنا اليوم، فخطاب تحت أضواء الإعلام وفي أجواء تحيط بها كل سبل الراحة اليوم، يختلف عن خطاب فيه السيف مسلّط على رقبتك ، والإنسان الذي لم يخض غمار الفتنة، يختلف عنه نفسه عندما يُقحم بنيران الفتنة والبلاء، فالذي يتحدث عن مجاهدة العدو، وقول كلمة الحق في وجه سلطان جائر في بيئة يعمها الأمن والأمان، ويأخذ بزمام أمرها سلطان عادل، يختلف خطابه عمن يصرح بذلك في بلد يخيم الظلم على قبابها، والثبات في ساح الوغى ساعة، أصدق من مئة خطبة ومقال عن الجهاد على منبر مؤسسة، أو حتى مسجد، وكذلك الثبات على أي مبدأ، يختلف فيه الجانب العملي عن النظري.
لهذا في الآونة الأخيرة وما تمخّض عنها من فتن شملت كثيراً من العلماء والخطباء والدعاة، كانت ضربة قوية لفئة من الشباب، غالوا في تقديس الأشخاص كأشخاص، فعرفوا الحق بهم، وحكموا على الحق من خلالهم، لتجد انتكاسة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، عصفت بهؤلاء الذين ما اعتادوا أن يكون الدين معيارهم وبوصلتهم، حيث دار داروا معه، ولو كان عكس وجهة الأحباب والخلان، بل والخطباء والوعاظ.
وبعد الأزمة الأخيرة التي ما زالت تمر بها الأمة، وتكشفت بها كثير من أحوال أولئك الذين كانت تنفطر لسماعهم قلوبنا، وتدمع لهم عيوننا، وجدت من يستوقفني أثناء محاضرة لي وقد علت وجهه سحابة من الخيبة وفقدان الثقة في كل من يقول: قال الله، وقال الرسول، ليسألني بحرقة: سألتك بالله، ما العمل وقد سقطت أقنعة عن وجوه طالما استبشرنا بها خيراً؟
وليت الحال وقف عند هذا السؤال، بل ستعجب إن علمت أن فلاناً من الناس قطع الصلاة، أو فلانة خلعت الحجاب، ليتفاقم الأمر، ويتطاول السفهاء من سفلة القوم؛ ليأخذوا فلاناً الذي سقط في تلك الفتنة، أو هذا البلاء ليقول لك بلا خجل: هؤلاء هم الذين كنتم تستفتونهم في أموركم، وتنصاعون لها، فحرمتم أنفسكم متع الحياة بناء على فتواهم، بل تلفظ البعض منهم بعبارات تأنف الفطرة السليمة من أن تمرّ بها خاطرة، ناهيك عن كتابتها وإعادتها على أسماع القوم.
والحقيقة أن هذه الفتن لم تكن بزمان معين، وليست مستحدثة في زماننا، بل إن الفتن ستظل تعصف بنا حتى يتميز الخبيث من الطيب، ما دام الصراع بين الحق والباطل قائماً، ولا تصالح بينهما على الإطلاق، لذا سيظل السجال قائماً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهناك تنصب محكمة العدل العليا، وحتى يسلم المسلم من هذه الفتن، لا بد أن يتبع سبل السلامة، ومن قبلها سبل الوقاية، حتى يظل قلبه سليماً معافىً عصياً على تشرب هذه الفتن والخوض بها، ومن ثم الوقوع في حبائلها، ومن أهم هذه الوسائل:
1. رأس الأمر أن تظل مستعصماً بالله، ومن تعرّف على الله في الرخاء تعرف الله عليه بالشدائد، فيظل المسلم محافظاً على أوامر ربه، مجتنباً نواهيه، فإن أخطأ سارع بالتوبة والندم، وأن يظل قلبه قبل لسانه لاهجاً بالدعاء، فاجعل ركن الله ملاذك وكهفك، وحصنك، استعصم به وتوكل على الله.
2. رسخ في فهمك وفهم من هم بدائرة مسؤوليتك أنّ قيامك لأي أمر، وتركك لأي فعل إنما هو امتثالٌ لأمر الله ، لا كما يعتقد سفهاء القوم أننا نأخذ التحريم والتحليل من بشر، إنما هو شرع ارتضاه الله لنا، فما رضيه الله لنا ارتضيناه، وما ردّه رددناه.
3. تيّقن أنّ القدوة الوحيدة في هذا الوجود والمعصومة عن الخطأ هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما سواه من بشر فيؤخذ منه ويرد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل الذي تأخذ منه في كل مجالات حياتك وأنت آمن على نفسك وقلبك، بل إن اتباعه إيمان ومثوبة، والتخلف عن ركبه كفر وخسارة.
النبي صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل الذي تأخذ منه في كل مجالات حياتك وأنت آمن على نفسك وقلبك، بل إن اتباعه إيمان ومثوبة، والتخلف عن ركبه كفر وخسارة
لا تحمّل الأشخاص -ولا سيما الدعاة والخطباء وأولئك الذين يشار لهم بالبنان- لا تحمّلهم فوق ما يحتملون، ولا تجردهم من بشريتهم بإلقائك عليهم هالة القداسة، والإفراط في التعظيم، فهم بشر، وكل بشر معرض للخطأ، وتذكّر إجابة نبيك المعصوم عن الخطأ على سؤال سائل: "أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: (نعم)، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: (نعم)، فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: (لا)" (رواه الإمام مالك في الموطأ)، فهذا يعني أن الإنسان قد يعثر في موقف تهدد به حياته أو ماله أو غير ذلك.
4. ليكن لك ورد من قراءة السير والتاريخ، فقد تعجب أن يكون هناك من ارتد في خير القرون وهو عصر الصحابة، فالرويات رغم الخلاف على صحتها تروي أن عبيد الله بن جحش -زوج أم حبيبة رضي الله عنها- قد ارتد في أرض الحبشة، وهو الذي هاجر من مكة فراراً بدينه، وكذلك عبد الله بن أبي السرح -الذي كان قد أهدر النبي دمه في فتح مكة- ولكنه دخل في جوار عثمان بن عفان، وفي نهاية الأمر بايع النبي بعد امتناعه صلى الله عليه وسلم بداية، إلا أنه في نهاية المطاف بايعه وحسن إسلام الرجل كما تروي التراجم، وهل حروب الردة التي خاضها أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلا صورة ومثالاً على أن البشر ستظل قلوبهم عرضة للتقلب.
5. إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار لمسألة تقلّب القلوب، وتغير أحوال الإنسان، وانتقاله من الكفر للإيمان، أو العكس، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يمسي الرجل فيها مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا) (رواه الطبراني في المعجم الأوسط) مما يجعلنا ذلك منتبهين مستعصمين بحبل الله؛ حتى نبقى أقل عرضة للصدمات، فنحصن أنفسنا على أن نثبت رغم تثبيط المثبطين، فلا تنال منا سهام المرجفين.
6. تذكر أن شريعة الله وسنة نبيه هي المعيار الذي نعرض عليه، ونقوّم أمورنا على ضوئه ، وأن أي معيار غير هذا فهو معيار فيه من الخلل والنقص ما لا ينكر ذو عقل، والواقع يؤكد ذلك.
7. تأمل خطاب الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف، آية:2]، أليس مخاطبته جلّ وعلا "يا أيها الذين آمنوا" لفت انتباه أن هناك من المؤمنين من يخالف حالهم تنميق أقوالهم، فيكون هذا دعوة لك لأن تراجع نفسك، وتلزمها أن تعرف الرجال بالحق، لا أن تعرف الحق بالرجال، ومن ثم أن تحرص على أن يتسق قولك مع عملك حتى لا يشملك قوله تعالى:{ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف، آية:3]، فالحق ثابت بيّن جلي كما الشمس، والرجال يتغيرون ويتبدلون، فمحسن الليل قد يغدو مسيء النهار، ومسيء النهار قد يمسي محسن الليل.
8. كن وسطياً في كرهك وحبك، وتذكر أننا نكره المعصية، ونشفق على العاصي، واسأل الله دائماً وأبداً لنفسك ولأهلك وإخوانك من المسلمين والمسلمات الثبات والمعافاة في الدين والدنيا، والستر فوق الأرض، وتحت الأرض ويوم العرض، واحمد الله على أنه سترك رغم معصيتك، ولولا جميل ستره عليك لكنت في حال غير هذا الحال.
كن وسطياً في كرهك وحبك، وتذكر أننا نكره المعصية، ونشفق على العاصي، واسأل الله دائماً وأبداً لنفسك ولأهلك وإخوانك من المسلمين والمسلمات الثبات والمعافاة في الدين والدنيا
9. تذكر مقولة أبي بكر الصديق: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت"، وبناء على ذلك فليتفكر أولئك الذين يتقربون ويعبدون الله من أجل فلان من الناس أن الناس يتغيرون ويتبدلون ويفنون، ووحده الله الواحد الأحد الذي لا يعتريه نقص ولا فناء، وطّن نفسك أن يكون الناس أسباباً ووسائل، لا غايات ومقاصد ، فإن أحسنوا نلت شرف صحبتهم في الطريق إلى الله، وإن تعثروا وزلت أقدامهم، فتذكر أنّ ربك وربهم الله، وأنت ابتداءً تعبد الله، فما يضيرك العبد والله معك على كل حال، فلا تنشغل بالسبب عن المسبب، ولا تنشغل في سعيك بالوسيلة عن الغاية، واسأل الله العون والرشاد.
اللهم يا مقلّب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.