ما أتعس أمة لا تعرف لها هوية! ولا تعرف لها مهمة أو رسالة! ولا تدرك أين تضع خطواتها المستقبلية! ولا تفقه واقعها! ولا تتعلم من ماضيها!
إن أمة بغير رسالة هي أمة بلا مستقبل، تعرقل خطواتها التبعية، وتتوج جهودها بصبغة لا تليق بها -إن كان هناك ثمة جهود- ثم هي تذهب في غياهب التاريخ بغير رجعة؛ لتستبدل بأمة غيرها، ثم لا تكون مثلها.
ورسالة المسلم كفرد، والأمة المسلمة ككيان، لم يحددها أفراد مهما بلغت أهميتهم، وإنما مثلها النبي محمد صلى الله عليه وسلم عملاً وحركة وسعياً.
وحدّدها الله عز وجل في كلمات معدودة، فيقول تعالى في سورة آل عمران: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ(110)}.
فمقتضيات الخيرية: تحقيق الرسالة، وهي التبليغ.
ومقتضيات الشهادة: تحقيق الوسطية وهي القيام بالدين.
فيقول سبحانه في سورة البقرة: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً(143)}.
مفاهيم غائبة عن إدراك الأمة اليوم:
وتمر الأمة اليوم بحالة غياب كامل عن مجموعة المفاهيم الأساسية التي يتوقف عليها كينونتها كخير أمة أخرجت للناس، وسوف أستعرض تلك المفاهيم وصولاً لرسالة الأمة في ضوء الكليات القرآنية:
-المفهوم الأول: الأمة
والأمة لغة: تعني الدين والطريقة، وتعني كل جماعة بشرية يجمعها رابط ما، وقد وردت في القرآن بعدة معاني، منها ما يدل على (الزمن)، ومنها ما يدل على (الدين)، ومنها ما يدل على (جماعة من الناس)، وقد أشار الله عز وجل في كتابه إلى العرب، ووصفهم بأنهم أمة في سورة الرعد حيث يقول: {وكذلك أرسلناك في أمةٍ قد خلت من قبلها أمم}، والآيات التي مرت بنا سالفاً –التي تحدد رسالة الأمة وهويتها ودورها- تشير إلى أمة الإسلام المميزة بالوسطية، والمفضلة بتبليغ الرسالة السماوية.
وبهذا النص القرآني نجد أن مفهوم الأمة يتسع ويشمل كل مسلم أيّاً كان لونه، أو لغته، أو جنسه؛ ليدخل في مفهوم الأمة المكلفة، فالخيرية ليست لجنس العرب، والوسطية ليست مخصصة للسان محدد.
-المفهوم الثاني: مفهوم الخيرية
والخيرية درجة من درجات التكريم، تكسبها الأمم بالعمل والالتزام بالتكليف، فخيرية الأمة ليست هبة من الله يهبها لأناس سمتهم الكسل، وحياتهم الخمول، ولا تتأتى بوساطة نبي أو رغبة مصلح، إنما هي جهد يبذل لخدمة الإنسانية تحت راية التوحيد المطلق، والعقيدة الثابتة كالجبال الرواسي، والعبادة الصحيحة، وتوجيه النية الخالصة لله، إنها حركة بين الناس وتحمل وصبر على عنتهم، ورغبة أكيدة في خلاصهم من الخسران المبين في الدنيا والآخرة، إنها حب ورسالة سامية تتحرك بها الأمة المختارة بين العالمين؛ لتبلغ رسالة ربها، رغبة في هداية الخلق وإسعادهم في الدنيا والآخرة.
خيرية الأمة ليست هبة من الله يهبها لأناس سمتهم الكسل، وحياتهم الخمول، ولا تتأتى بوساطة نبي أو رغبة مصلح، إنما هي جهد يبذل لخدمة الإنسانية تحت راية التوحيد المطلق
-المفهوم الثالث: الرسالة
والرسالة هنا ليست رسالة أرضية يضعها مجموعة من البشر تتخبطهم الأهواء، إنما هي رسالة وضعها الله عز وجل كرسالة خاتمة تضمن صلاح البشرية إلى يوم الدين،قال تعالى: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران، آية:110]، السعي في الأرض بالإصلاح وإسعاد الخلق تحت مظلة الإيمان، وداخل إطار الإسلام، وفي وصف دقيق لتحديد تلك الرسالة يقول "ربعي بن عامر" لـ"رستم" قائد جيش الفرس -حين سأله عن سبب مجيئه بجيش المسلمين لمحاربتهم في ديارهم-: "نحن قوم ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
-المفهوم الرابع: الوسطية
الوسطية: هي حالة للأمة المختارة من الله عز وجل؛ لتحمل مشروع الهداية والرسالة الخاتمة للعالمين، وهي شرط الشهادة كما ورد بالآية الكريمة "أمة وسطاً"، "لتكونوا شهداء".
والوسطية حالة ومشروع للأمة "الوسط" وليست للدين، فالدين واحد وهو الإسلام، لكن الأمم متعددة، والأفهام متعددة، والحضارات المبنية عليها متعددة، فجعل الله عز وجل أمته المختارة "أمة وسطاً".
إذا أردنا فهمها -أي الوسطية- ففي القرآن تفصيل لها، والوسط الذي توصف به الأمة هو وسط جامع، وهنا قوة وإعجاز القرآن، فعلى سبيل المثال، الآية الافتتاحية في سورة البقرة: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}، تعني أن كل القرآن هدى، لكن حضور كلمة هدى في البدء يعني أن كل الآيات التالية الواردة بين دفتي المصحف هي هذا الهدى، بمعنى أن الآية إجمال سيتلوه تفصيل وبيان، وهذا من إعجاز القرآن، إجمال يعقبه بيان.
-المفهوم الخامس: الشهادة
الشهادة: هي قول صادر عن علم، حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة، قال تعالى: {ستكتب شهادتهم ويسألون}[الزخرف، آية19].
الشهود: الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر أو البصيرة، قال تعالى: {ما شهدنا مهلك أهله}[النمل، آية:49]، أي ما حضرنا.
والوسطية -كما أسلفنا- هي شرط الشهادة ومقدمتها، فلا شهود إلا للأمة الوسط، والشهادة تكليف ووظيفة، أكثر من مجرد تشريف للنبي المكرم محمد صلى الله عليه وسلم، وتكليف كذلك لأمته من بعده، يقول الله عز وجل: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} [الأحزاب، آية:45]، ويقول تبارك وتعالى: {وفي هذا ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعمً النصير} [سورة الحج،آية:78].
يقول سيد قطب رحمه الله : "فالرسول عليه الصلاة والسلام يشهد على هذه الأمة، ويحدّد منهجها واتجاهها، ويقرر صوابها وخطأها، وهي تشهد على الناس بمثل هذا، فهي القوامة على البشرية بعد نبيها، وهي الوصية على الناس، بموازين شريعتها وتربيتها، وفكرتها عن الكون والحياة، ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق، المتصل الوشائج، المختار من الله تعالى" اهـ.
شروط الشهادة:
والشهادة جعلها الله عز وجل للأمة المؤهلة لها، فهي ليست هبة، وإنما تكليف مشروط بالتطبيق الكامل للمنهج السماوي.
الشرط الأول- توحيد الله وعبادته شرط من شروط استمرار الشهود والشهادة، شرط استحقاق، يقول تعالى: {وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}[سورة النور، آية:55].
الشرط الثاني- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرط من شروط استحقاق الشهادة،قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون(79)}[سورة المائدة].
تلك هي مجموعة المفاهيم اللازمة لإعادة الإدراك الكامل للأمة وإحداث حالة الوعي اللازم؛ لإحياء مهمتها التي استهلكت سنوات، بل قروناً بعيدة عنها، ليست مجرد مجموعة مفاهيم ومصطلحات، وإنما هي هوية كاملة، ومنهج متكامل لإدارة الصراع الداخلي المفروض عليها، الصراع مع الجهل، والغياب، وضعف الإرادة. أما الخارج فليس لدى الإسلام صراع مع الآخر، بل هو إرادة الهداية وطريق النور والسعادة والخير المطلق، فإلى وعي متكامل في سبيل إسعاد العالم.