يقول الله تعالى محدداً وظيفة الأمة المسلمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة، آية:143].
وشهادة الغائب باطلة، وشهادة الجاهل باطلة، وشهادة الكافر على إيمان المؤمن باطلة، وبناء على ذلك، فإن شهادة أمتنا اليوم على الأمم لا تجوز؛ لأنها شهادة غائب، شهادة المتلقي لثقافة العالم لا المهيمن عليها، فهي في حقيقتها شهادة زور، لا تجوز بحق الله تبارك وتعالى، وشهادة الغير علينا لا تجوز؛ لأنها كشهادة الكافر على المؤمن.
إن الحالة العالمية اليوم ليس لها مآل حتمي سوى الهلاك، هلاك البشرية بتلك الصناعة التي تبدع في إتقانها، صناعة الموت والدمار مع ريادة الغرب وسبقه في كل المجالات: السياسية والاقتصادية والعلمية، ولا أحسب أنه من الممكن في الوقت الحاضر أن نستطيع تجاوزه فيها؛ لتستحق الأمة قيومتها عليه، إنما هناك سبيل آخر لا يملكه الغرب ونملكه بين أيدينا، غير أننا أنفسنا في غفلة منه، إنه المنهج النوراني الذي تعهد الله عز وجل بحفظه في كتابه العزيز، وذلك ما ينقص الغرب، تلك الروح التي تنقذه من براثن المادية، فتصنع التوازن المطلوب لإنسان حضاري متكامل.
إن شهادتنا بحالنا الذي نحن عليه اليوم هي شهادة زور، فالشهادة علم ، يقول حجة الإسلام الغزالي: "إن ثمة تلازمًا قويًا بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فمن تعلم علمًا واحدًا فلا يكفي، من تعلم علوم الحياة فقط فلا نصيب له في الآخرة، ومن تعلم علوم الدين، وجهل علوم الحياة فإن فهمه للدين سيكون ناقصًا.. وإذن فلا بد من العلمين معًا".إن شهادة العالم عن كل ما يقرب للإسلام بصلة بأنه إرهاب وجهل وتخلف وفقر ومرض، وصارت كلمة المسلم مجردة، لا تعني سوى تلك المعاني السلبية في ذهن العالم، إنه التحذير الرباني الذي وجهه الله لنا: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة التوبة، آية:8]، فيجب أن يحرص المسلم أن لا يعطي الدنية في أمره، بل يجب أن يظل حريصاً على الريادة؛ حفاظاً على نفسه، وحفاظاً على الفكرة التي يحملها، وحفاظاً على تلك البشرية من الهلاك، كما هلكت الأمم من قبل.
التفوق العالمي فريضة ربانية على المؤمنين:
يقول سيد قطب رحمه الله في كتابه "معالم في الطريق": "لقد غابت أمتنا المسلمة عن الوجود والشهود دهراً طويلاً، وقد تولت قيادة البشرية أمم أخرى، وتصورات أخرى، وأوضاع أخرى، وقد أبدعت العبقرية الأوروبية في هذه الفترة رصيداً ضخماً من العلم والثقافة والأنظمة والإنتاج المادي، وهو رصيد ضخم تقف البشرية على قمته، غير مستعدة للتفريط فيه، ولا فيمن يمثله، وخاصة أن العالم الإسلامي يكاد يكون عاطلاً عن كل هذه الزينة، إن هذه الأمة لا تملك أن تقدم للبشرية تفوقاً خارقاً في الإبداع المادي تحني له الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية، من هذه الزاوية، فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر على الأقل التفوق المادي عليها، فلا بد من مؤهل آخر، مؤهل تفتقده هذه الحضارة، وهذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا، ولكن ليس بوصفه المؤهل الذي نتقدم به قيادة العالم، في المرحلة الراهنة، وإنما بوصفه ضرورة ذاتية لوجودنا، وكذلك بوصفه واجباً يفرضه علينا التصور الإسلامي الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض، ويجعلها تحت شروط معينة، عبادة لله تعالى، وتحقيقاً لغاية الوجود الإنساني، لا بد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية غير الإبداع المادي، ولن يكون سوى "العقيدة" والمنهج الذي يسمح للبشرية أن تحتف بنتاج عبقريتها المادية تحت إشراف العقيدة والمنهج، من تجمع إنساني، أي في مجتمع مسلم".
لقد وقف المسلمون طويلاً على الحضارة الغربية موقف "المشتري والمستهلك"، لا موقف التلميذ المتعلم ، فكلما أراد سلعة اشتراها، ومثّل بترول الخليج عاملاً مهماً في عدم النهوض بالعقلية العربية، وساعد ملاكه على التثاقل والبحث؛ لتصير تلك الدول أكبر سوق استهلاكية للمنتج الغربي؛ ليكون هذا المال وبالاً على أصحابه.وتلك شهادة أحد الذين تربوا في ظلال الحضارة الغربية، وهو الدكتور "رشدي فكار" يقول في "حوار متواصل": "لن نستطيع أن نقدم للعالم طائرات أسرع، ولا طرقاً أنعم، ولا سيارات أجود، ولا صناعات أفضل، لكن بإمكان الإسلام أن يقول: سأعطيكم إنساناً أكثر توازناً واعتدالاً، أكثر براً وإحساناً، إنساناً يرتبط بمبادئه، يهاب ويخشى خالقه، إنسان يحترم الإنسان، ويعمل لإسعاده، لا الارتقاء بناطحات السحاب، واستنزاف الخيرات، في إطار من التحايل والمكر، والدهاء والكيد".
وهذا "مالك بن نبي" يتحدث عن تكديس منتجات الحضارة، وأنها لا تكسب صاحبها التحضر، وإنما هو مجرد مستهلك لأدوات حضارة أخرى فيقول: "لكل حضارة منتجاتها التي تتولد عنها، ولكن لا يمكن صنع حضارة بمجرد تبني منتجات حضارة ما، فشراء ما تنتجه الحضارة الغربية من قبل دول العالم، لم يجعلها تكسب حضارة أو قيماً؛ إذ الحضارة ليست تكدس منتجات، بل هي فكر وقيم ومثل، لا بد من كسبها أو إنتاجها".
وما زال هناك أمل:
إن المنهج الذي حول أمة من رعاة الإبل في قلب الصحراء، إلى أمة تصنع حضارة من أعظم الحضارات التي عرفتها البشرية ما زال كما هو لم يتعرض لضياع آية من آياته، واضح وصريح وشفاف كالشمس، لا ينقصه سوى الرجال الذين يحملونه، وكأنه يتنزل من جديد؛ ليواكب متطلبات العصر، وهو الصالح لكل عصر، ولكل البشر وفي كل أوان.
إن المنهج الذي حول أمة من رعاة الإبل في قلب الصحراء، إلى أمة تصنع حضارة من أعظم الحضارات التي عرفتها البشرية ما زال كما هو لم يتعرض لضياع آية من آياته، واضح وصريح وشفاف كالشمس، لا ينقصه سوى الرجال الذين يحملونه
ختاماً.. كما يرى بعض الباحثين فإن الأمة ما تزال تحوي في داخلها "خميرة" النهوض من جديد، ومقومات الإفلات من معيقات هذا النهوض، فالأمة الوسط ينبغي أن تكون مرجعاً لغيرها من الأمم، بوصفها أمة الشهود.
كما أن رسالة الأمة وواجبها ووظيفتها لن تتحقق بالشكل المرجو ما لم ترتفع هذه الأمة إلى مستوى الشهود الحضاري المنوط بها، فهذه الأمة التي وصفها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بأنها "أمة الخيرية"، و"أمة الوسط" لن تدخل في فعل حضاري شهودي كلي ما لم تستوعب حقيقة وسطيتها، وطبيعة رسالتها الشهودية، وما لم تمتلك القدرة على اكتشاف سنن الفعل الحضاري وفاجعة الوهن الحضاري التي أصابت الكثير من مفاصلها من زمن طويل.