انتشر قولٌ يحرم أن يُقال عن القتيل في المعركة ضد المعتدي الكافر أو على يد سلطان جائر: "فلان شهيد"، وبعضهم يشترط أن تقول بعد هذه العبارة: "بإذن الله" أو "ولا نزكي على الله أحداً"، حتى قال أحد مشايخ "السلفية الرسمية" إن هذا القول هو "الصواب الذي لا حق سواه"! وقال في موضع آخر: "فاثبتوا على قول (ولا نزكيه على الله) لازمة لازمة، ولا تضجروا من تكرارها، والله حسيب الجميع"، وقال في موضع ثالث: "أي إرجاء أكبر من وصف سيد قطب بالشهادة بلا أدنى تحفظ؟!".
ولا يكادُ عجبي ينتهي ممَّن ينكرُ على مَن يصف القتيل في سبيل الله بـ"الشهيد"، والله سبحانه وتعالى ينهانا أن نقول إنه ميت، وذلك قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن يُقتلُ في سبيل الله أمواتٌ، بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون} (البقرة: 154)، فالواجب وصف القتلى في سبيل الله بما وصفهم به الله تعالى؛ فنقول: إنهم أحياء، أو شهداء كما في قوله سبحانه: {ويتخذ منكم شهداء} (آل عمران: 140).
قال الإمام مقاتل البلخي رحمه الله في تفسيره (1/150-151): "نزلت فِي قتلى بدر من المسلمين، وهم أربعة عشر رجلاً من المسلمين، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، فمن المهاجرين عُبَيْدة بن الحارِث بن عبد المُطَّلب، وعمير بن نضلة، وعقيل بن بكير، ومهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصفوان بن بيضاء، فهؤلاء ستة من المهاجرين، ومن الأنصار سعد بن خيثمة بن الحارث بن النخاط بن كعب بن غنم بن أسلم بن مالك بن الأوس، ومبشر ابن عبد المنذر، ويزيد بن الحارث، وعمر بن الحمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ ابن عفراء وعوف ابن عفراء، وهما ابنا الحارث بن مالك ابن سَوَّار، فهؤلاء ثمانية من الأنصار" اهـ.
ولا يُبعدنّ قائلٌ المذهب بقوله إن هذ الآية خاصة بهؤلاء الذين ذكر مقاتلٌ أسماءهم، ففي هذا تعطيل لدلالات القرآن وأحكامه، فقوله سبحانه: "ولا تقولوا" تعليمٌ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولمن يأتي بعدهم من أهل الإسلام، وليس نهياً خاصاً بالصحابة.
وقوله: "لمن يُقتل" يفيد العموم، والعام يستغرق كل أفراده، وفيه تأكيد على أن الآية غير خاصة بزمن دون آخر، ولا بقتلى في سبيل الله دون آخرين.. وحاشا أن يكون الخطاب الإلهي تعجيزياً حتى يُقال إننا لا نستطيع الجزم بأن هؤلاء القتلى شهداء؛ فكيف نصفهم بذلك؟ فحكم العباد على العباد إنما يكون بما يظهر من حالهم، أما الحقيقة والمآل فأمرهما إلى الله تعالى، ولذلك قال سبحانه: "ولكن لا تشعرون" فمع عدم شعوركم بحياتهم، إلا أن الله لم يكلفكم بالكشف عن هذه الحقيقة قبل أن تصفوهم بأنهم "أحياء"، وإنما يكفيكم أنكم رأيتموهم يُقاتلون في صفوف المسلمين ضد الكفار.
حاشا أن يكون الخطاب الإلهي تعجيزياً حتى يُقال إننا لا نستطيع الجزم بأن هؤلاء القتلى شهداء؛ فكيف نصفهم بذلك؟ فحكم العباد على العباد إنما يكون بما يظهر من حالهم، أما الحقيقة والمآل فأمرهما إلى الله تعالى
وقد يقول قائل: إن الآية إنما تنفي وصف جنس القتلى في سبيل الله بالأموات، وليس المقصود منها وصفهم بأعيانهم. فأقول: هي تشمل الأمرين معاً، ولا دليل على التخصيص، ولو قاتل شخصٌ في صفوف المسلمين ضد الكفار، فقتل، فهو مقتول في سبيل الله فيما يظهر لنا، والمؤمنون "شهداء الله في الأرض" كما في الحديث المتفق عليه، والشاهد مكلَّف بأن يشهد بالظاهر، وما دون ذلك فتكلف بارد.
ولقد تتبعتُ كتب أهل العلم المتقدمين والمتأخرين؛ فما رأيتُ عالماً من العلماء، يُتبع وصفه لأحدهم بالشهيد؛ بقوله: "بإذن الله"! أو: "ولا نزكيه على الله"! بل إن هدي الصحابة رضي الله عنهم على خلاف ذلك؛ ففي "صحيح البخاري" (4757) ومسلم (2770) قالت عائشة رضي الله عنها في صفوان بن المعطل السلمي: "فقتل شهيداً في سبيل الله"، وكان صفوان رضي الله عنه قد استشهد في خلافة عمر بن الخطاب في معركة أرمينية عام 19هـ.
وفي صحيح البخاري (4618) ومواضع؛ قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: "صبّح أناسٌ غداة أحُدٍ الخمرَ، فقُتلوا من يومهم جميعاً شهداء، وذلك قبل تحريمها".
وثبت عند الحاكم في مستدركه (4987 و4988) عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "قُتل حذيفة بن عتبة بن ربيعة يوم اليمامة شهيداً".
وثبت عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/12) والحاكم في "المستدرك" (5275) أن أنس بن مالك قال: "لما كان يوم العقبة بفارس، وقد زُوي الناس؛ قام البراء بن مالك فركب فرسه وهي توجَى، ثم قال لأصحابه: بئس ما دعوتم أقرانكم عليكم. فحمل على العدو، ففتح الله على المسلمين به، واستُشهد رحمه الله يومئذ".
وثبت عند الإمام أحمد في "مسنده" (1760) والنسائي في "سننه الكبرى" (10838 و10845) وغيرهما، أن خالد بن سارة سأل عبدالله بن جعفر رضي الله عنه: ما فعل قُثَم بن العباس؟ قال: استُشهد.
وثبت عند ابن حبان في "صحيحه" (4756) أن معقل بن مقرن رضي الله عنه قال في شقيقه النعمان عقب مقتله في معركة نهاوند: "هذا أميرُكم قد أقرّ الله عينه بالفتح، وختم له بالشهادة".
قلت: في الآثار السابقة الثابتة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إطلاق وصف "الشهيد" ومشتقاته اللغوية من غير تقييد، ولم يرد عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا إذا أطلقوا وصف "شهيد" أو "شهداء"؛ أتبعوا ذلك بقولهم: "بإذن الله" أو "لا نزكي على الله أحداً"... أو ما شابه ذلك من عبارات.
ولو أردت أن أسرد ما يشبه هذه الآثارَ من آثار التابعين وتابعيهم؛ لطال بنا المقام، لذلك أكتفي بأثر رواه البخاري بإسناده (4078) عن قتادة رحمه الله قال: "ما نعلم حياً من أحياء العرب أكثر شهيداً أعز يومَ القيامة من الأنصار"، قال قتادة: "وحدثنا أنس بن مالك أنه قُتل منهم يوم أُحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون"، قال: "وكان بئر معونة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب".
ولماذا نُغرق كثيراً في سرد الأقوال وقد "أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحُد وغيرهما شهداء" كما قال الإمام ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (6/90)، ولم يقيدوا هذه التسمية باستدراكات لم يأمرهم الشرعُ بها.. وأما خلاف ذلك مما ورد عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود؛ فسأناقشه ضمن محاكمة أدلة المخالفين في المقالة القادمة بإذن الله تعالى.
أضف إلى ما سبق؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أسبغ وصف "الشهيد" على أصناف معينة، منها ما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه: "الشهداء خمسة: المطعونُ، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله".
قلت: إذا ما قضى مسلمٌ غرقاً؛ فهو "الغريق"، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف "الغريق" بـ"الشهيد"، فإذا ما وصفنا غريقاً مسلماً بـ"الشهيد" ألسنا حينئذ التزمنا وصف النبي عليه الصلاة والسلام له؟ وأي حجة يتشدق بها المتكلفون؛ تمنعنا من وصف شخص بما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم؟!
النبي صلى الله عليه وسلم وصف "الغريق" بـ"الشهيد"، فإذا ما وصفنا غريقاً مسلماً بـ"الشهيد" ألسنا حينئذ التزمنا وصف النبي عليه الصلاة والسلام له؟ وأي حجة يتشدق بها المتكلفون؛ تمنعنا من وصف شخص بما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم؟!
قد يقول قائل: إن النبي عليه الصلاة والسلام وصف أصنافاً لا أشخاصاً.. فأقول: وهل الصنف إلا وصفٌ عامٌ يندرج تحته مجموعة أفراد؟ وهل يكون الشخص الغريق - مثلاً - إلا فردٌ داخلٌ تحت صنف من هذه الأصناف، وبالتالي يستحق الوصف الذي أسبغه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحاب هذا الصنف؟!
ويؤكد هذا المعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم (1915) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدّون الشهيد فيكم؟" قالوا: يا رسول الله! من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: "إن شهداء أمتي إذاً لقليل"، قالوا فمن هم يا رسول الله؟ قال: "مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد"، قال ابن مِقسَم: أشهدُ على أبيك في هذا الحديث أنه قال: "والغريق شهيد".
فقوله عليه الصلاة والسلام: "ما تعدّون الشهيد فيكم؟" يتحدث عن أشخاص معدودين في "الشهداء".. قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" (4/29): "عدّ، العين والدال أصلٌ صحيح واحدٌ لا يخلو من العد الذي هو الإحصاء، ومن الإعداد الذي هو تهيئة الشيء، وإلى هذين المعنيين ترجع فروع الباب كلها، فالعدّ: إحصاء الشيء، تقول: عددت الشيء أعُدّه عداً فأنا عادّ، والشيءُ معدودٌ. والعديد: الكثرة. وفلانٌ في عِداد الصالحين، أي يُعَدّ معهم".
قلت: وهل يصح أن يُقال: إن الصحابة رضوان الله عليهم يعدّون الأشخاص المندرجين تحت الأصناف المذكورة مع الشهداء ويمتنعون في الوقت نفسه عن وصفهم بـ"الشهداء"؟ هذا من أعجب العجب.
وفي إنزال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوصف على الأعيان؛ روى البخاري (2830 و5732) ومسلم (1916) عن حفصة بنت سيرين قالت: قال لي أنس بن مالك: بمَ مات يحيى بن أبي عَمرة؟ قالت: قلت: بالطاعون، قالت: فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون شهادة لكل مسلم".
قلت: ما يُقال في الغريق؛ يُقال في غيره من الأصناف، والتي منها القتيل في سبيل الله.
ولا يلزم من وصف فلان بـ"الشهيد" أننا نجزم بأنه من أهل الجنة كما يحاجج بعض المخالفين، فإننا نصف فلاناً بـ"المسلم" مع أنه قد يكون من الراسخين في النفاق، إلا أننا حكمنا له بذلك لما بان لنا من مظاهر إسلامه، ولسنا مكلّفين بأن نشق صدره حتى نعلم ما فيه، ولن نعلم!
لا يلزم من وصف فلان بـ"الشهيد" أننا نجزم بأنه من أهل الجنة كما يحاجج بعض المخالفين، فإننا نصف فلاناً بـ"المسلم" مع أنه قد يكون من الراسخين في النفاق، إلا أننا حكمنا له بذلك لما بان لنا من مظاهر إسلامه، ولسنا مكلّفين بأن نشق صدره حتى نعلم ما فيه، ولن نعلم
وقد يقول قائل: إن هذا قياس مع الفارق، فوصف "الشهيد" يلزم منه دخول الجنة ابتداءً بلا عذاب، أما وصف "المسلم" فلا يلزم منه ذلك، إذ قد يُعذب المسلم ببعض ذنوبه ثم يدخل الجنة!
فأقول: هذه حجة واهية، فما الفرق بين أن نشهد لرجل بدخول الجنة ابتداءً، أو دخولها انتهاءً، والجزم بكلا الأمرين في علم الله تعالى؟!
وقد يقول قائل: إن وصف شخص بـ"الشهيد" تزكية زائدة على معنى الإسلام، وعليه فإن من الواجب أن نتبع هذه التزكية بقولنا: (نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً)، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (2662) ومواضع، ومسلم (3000) عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: أثنى رجلٌ على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ويلك! قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك" مراراً، ثم قال: "من كان مادحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسبُ فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا، إنْ كان يعلم ذلك منه".
فأقول: إنّ هذا الحكم معقول المعنى، وهو معلَّلٌ بقوله عليه الصلاة والسلام (قطعت عنق صاحبك)، وفي رواية (قطعتم عنق الرجل)، وفي رواية (قطعتم ظهر الرجال)، وفي رواية (أهلكتم ظهر الرجل)، وهو كناية على القتل لاشتراكهما في الهلاك، أي أهلكتموه حينما مدحتموه لما يترتب على ذلك من إعجابه بنفسه، ونكوصه عن بذل المزيد من العمل الصالح، قال ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري (9/254-255): "معنى هذا الحديث - والله أعلم - النهي عن أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه؛ فيدخله من ذلك الإعجاب، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة؛ ولذلك قال: (قطعتم ظهر الرجل) حين وصفتموه بما ليس فيه، فربما حمله ذلك على العجب والكبر، وعلى تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل".
وقال ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (2/14): "معنى الحديث؛ أنك عرّضت صاحبك للهلاك بمدحك إياه؛ لأن المدح يُحرّك إلى الإعجاب بالنفس والكبْر".
وقال العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (13/239): "قال (أهلكتم) لئلا يغتر الرجل ويرى أنه عند الناس كذلك بتلك المنزلة؛ ليحصل منه العُجب فيجد إليه سبيلاً".
وعليه؛ فمن قُتل أو غادر هذه الدنيا؛ فلا ينطبق عليه النهي الوارد في هذا الحديث، وفي التطبيق العملي للصحابة والتابعين ومن تبعهم؛ لم نجد أحداً منهم يصف شخصاً بـ"الشهيد" أو جماعة بـ"الشهداء" ويُتبع هذا الوصف بقوله "بإذن الله" أو "نحسبه كذلك"، أو "لا نزكي على الله أحداً".
وللحديث بقية..