عرضت في المقالة السابقة ما ترجح لدي أنها أقوى الأدلة على جواز أن يُقال "فلان شهيد"، طاوياً كشحاً عن بعض الاستدلالات التي تصلح للاستئناس، وربما تُفرط عقدَها الاحتمالاتُ التي يوردها المخالفون.
وليس من الإنصاف أن نُعرض عن استدلالات المخالفين، لنبين ما فيها من قوة أو ضعف، بغرض المساهمة في تحفيز العقل المسلم على البحث العلمي من أجل الوصول إلى الصواب من القول.
ولا بد من تنبيه القارئ على أن لا يغتر بكثرة الأدلة التي يسوقها المخالفون، فالعبرة ليست بكثرة الأدلة، وإنما في قوتها رواية ودراية، ومناسبتها للدلالة على مراد المستدل بها، ولو كان غرضنا حشد الأدلة والشواهد - قويّها وضعيفها - على جواز القول "فلان شهيد" لأتينا بأضعاف أدلة المخالفين.. والله المستعان.
أدلة المخالفين
- الدليل الأول:
قول الله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32].
- وجه الدلالة:
أن وصف "الشهيد" تزكية، والله تعالى نهى عن تزكية النفس، وأحال معرفة حقائق النفوس إلى ذاته سبحانه.
- الرد:
الشهيد لا يزكي نفسه، ومن يطلق عليه وصف "شهيد" ليس بالضرورة أن يكون غرضه التزكية، وإنما هو التزام منه بالأوصاف الشرعية التي يستحقها القتيل المسلم في المعركة، ولو كان غرضه التزكية من غير جزم بمآله؛ فلا نعلم مانعاً شرعياً من ذلك.
ثم إن التزكية ليست كلها مذمومة، فالتزكية المذمومة هي أن يبرئ الإنسان نفسه من جميع المعاصي والذنوب، أو تلك التي تورث كبراً وعجباً، وفصّل الإمام النووي القول في ذلك في "الأذكار" (ص278-280) فليُنظر.
الشهيد لا يزكي نفسه، ومن يطلق عليه وصف "شهيد" ليس بالضرورة أن يكون غرضه التزكية، وإنما هو التزام منه بالأوصاف الشرعية التي يستحقها القتيل المسلم في المعركة
أضف إلى ذلك؛ أن من الجائز وصف القتيل في سبيل الله نفسه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بـ"الشهيد" أو ما يدل على هذا الوصف من عبارات، فقد روى البخاري (4092) ومسلم (677) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لمّا طُعن حرام بن ملحان، وكان خاله يوم بئر معونة، قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: فزتُ وربِّ الكعبة".
- الدليل الثاني:
روى البخاري في صحيحه (7003) ومواضع، عن خارجة بن زيد بن ثابت: أن أم العلاء - امرأة من الأنصار بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة، قالت: فطار لنا عثمان بن مظعون وأنزلناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغُسل وكُفن في أثوابه؛ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه؟".
فقلت: بأبي أنت يا رسول الله! فمن يكرمه الله؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمّا هو فوالله لقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، ووالله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي".
فقالت: والله لا أزكي بعده أحداً أبداً.
- وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أم العلاء قولها: "لقد أكرمك الله" لما يلزم منه من الشهادة لعثمان بن مظعون بالجنة، والقول بأن فلاناً شهيد من هذا الضرب.
- الرد:
هذا قياس مع الفارق، فهناك فرق جلي بين الشهادة لمن يُتوفى على فراشه، وبين من يُقتل في المعركة مُقبلاً غير مدبر، فقولنا في الشهيد "إن الله أكرمه" يُقصد به أن الله أكرمه بالشهادة فيما يظهر لنا، ومآله إلى الله؛ لا ندري ماذا يُفعل به، فلا نجزم له بأنه من أهل الجنة، وإنما نطلق عليه الوصف الشرعي بلا تكلف ولا تشديد.
قولنا في الشهيد "إن الله أكرمه" يُقصد به أن الله أكرمه بالشهادة فيما يظهر لنا، ومآله إلى الله؛ لا ندري ماذا يُفعل به، فلا نجزم له بأنه من أهل الجنة، وإنما نطلق عليه الوصف الشرعي بلا تكلف ولا تشديد
ويدل عليه ما رواه البخاري (2827) ومواضع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعد ما افتتحوها، فقلت: يا رسول الله! أسهم لي، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله، فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل، فقال ابن سعيد بن العاص: واعجباً لوبرٍ تدلّى علينا من قدوم ضأن، ينعى عليّ قتل رجل مسلم أكرمه الله على يديّ، ولم يهنّي على يديه، قال: فلا أدري أسْهَمَ له أم لم يُسْهِمْ له.
والشاهد قول ابن سعيد بن العاص: "أكرمه الله على يديّ" أي بالشهادة في سبيل الله.
قال بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (14/123) معلقاً على ترجمة البخاري الحديثَ تحت "باب الكافر يَقتل المسلمَ ثم يسلم فيسدِّد بعدُ ويُقتل": "مطابقته للترجمة تؤخذ من قول ابن سعيد بن العاص، وهو أبان بن سعيد: (أكرمه الله بيدي) وأراد بذلك أن ابن قوقل - وهو النعمان - استشهد بيد أبان فأكرمه الله بالشهادة، ولم يُقتل أبان على كفره فيدخل النار، بل عاش حتى تاب وأسلم، وكان إسلامه قبل خيبر وبعد الحديبية، وهذا هو عين الترجمة".
- الدليل الثالث:
روى مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدّثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر؛ أقبل نفرٌ من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد.. حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا، إني رأيته في النار في بُردة غلّها أو عباءة".
- وجه الدلالة:
أنه ليس لأحد أن يصف القتيل في سبيل الله بـ"الشهيد" كونه قد يكون متلبساً بمانع من موانع الشهادة لم نطلع عليه، ولذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وصفهم الرجل الذي غل عباءة بقولهم (فلان شهيد).
- الرد:
في بعض رجال إسناد هذا الحديث كلام، ولكن لنتجاوز ذلك إلى الحديث عن دلالته؛ ففي ذلك كفاية..
عند النظر والتأمل في متن الحديث؛ يتبين لنا أنه حجة للقائلين بجواز قول "فلان شهيد" لا العكس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أصحابه قولهم حينما كانوا يمرون بقتلى المعركة: "فلان شهيد، فلان شهيد" لأنهم حكموا عليهم بالظاهر، إلا أنهم حينما مروا على هذا الرجل بالذات ووصفوه بأنه "شهيد"؛ أنكر النبي عليه الصلاة والسلام عليهم ذلك لعلمٍ خاص علّمه الله إياه من خلال ما أراه أن فلاناً في النار، كونه غلّ بردة أو عباءة من الغنائم، ويكأنه يشير إلى أن قتاله كان من أجل المغنم، لا في سبيل الله.
وعليه؛ فغاية ما يدل عليه الحديث؛ أن يكتفي المرء بوصف قتيل المعركة المسلم بـ"الشهيد" من غير أن يعقد قلبه على الجزم بأنه من أهل الجنة، ولا يعني ذلك أن يتكلف ألفاظاً زائدة ليس هنا موضعها، كأن يقول: "نحسبه كذلك" أو "بإذن الله" أو "ولا نزكي على الله أحداً"، فهذه الألفاظ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يستخدمونها في هذا الموضع، ومن يشترط استخدامها هنا فإنه يوجب على الأمة ما لم يوجه الله تعالى، ويضيق واسعاً، ويقع في تكلف مذموم.
غاية ما يدل عليه الحديث؛ أن يكتفي المرء بوصف قتيل المعركة المسلم بـ"الشهيد" من غير أن يعقد قلبه على الجزم بأنه من أهل الجنة، ولا يعني ذلك أن يتكلف ألفاظاً زائدة ليس هنا موضعها، كأن يقول: "نحسبه كذلك" أو "بإذن الله" أو "ولا نزكي على الله أحداً"، فهذه الألفاظ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يستخدمونها في هذا الموضع
- الدليل الرابع:
روى مسلم في صحيحه (1905) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهد، فأُتي به فعرّفه نعمَهُ فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ حتى استُشهدت، قال: كذبت، ولكن قاتلت لأن يُقال جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي النار...".
- وجه الدلالة:
أن الرجل المذكور في الحديث قُتل في المعركة مع الكفار، ولكنه لم يستحق وصف الشهادة كونه كان يقاتل كي يُقال عنه "جريء"، ولم يكن قتاله في سبيل الله؛ فكان جزاؤه أن يُلقى في النار.
- الرد:
ليس في الحديث نهي عن أن يُقال للمسلم الذي يُقتل في المعركة "شهيد"، بل هو دليل على عكس ذلك، ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رجلٌ استشهد" إقرار بوصفه في الدنيا بـ"الشهيد" لأن ذلك حكمٌ يختص بظاهر الحال، ولسنا مكلَّفين بغير ذلك، أما السرائر فنكلُ أمرها إلى الله تعالى.
وللحديث بقية..