هل أخطأ الإمام البخاري في قوله: "باب لا يقال فلان شهيد"؟
- الدليل الخامس:
ترجم الإمام البخاري في صحيحه "باب لا يقول فلان شهيد" وفي بعض النسخ "لا يُقال فلان شهيد"، مورداً تحته حديثين. ولقد رأينا أغلب المخالفين في هذه المسألة يرددون ترجمة البخاري أكثر مما يرددون الأحاديث التي استشهد بها هو نفسه، بل لعل كثيراً منهم لم يقف على هذه الأحاديث أصلاً.. ومع ذلك؛ فسنناقش الاستشهاد بالحديثين أولاً، ثم نتناول ترجمة البخاري رحمه الله.
أ- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يُكلم في سبيله" وقد رواه البخاري في هذا الباب معلقاً ومختصراً، وهما في الأصل حديثان أخرجهما البخاري في صحيحه بتمامهما:
الأول برقم (2787) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "مَثلُ المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم، وتوكَّلَ اللهُ للمجاهد في سبيله بأن يتوفّاه أن يُدخله الجنة، أو يُرجعه سالماً مع أجر وغنيمة".
والثاني برقم (2803) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "والذي نفسي بيده! لا يُكلَمُ أحدٌ في سبيل الله - والله أعلمُ بمن يُكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم، والريح ريح المسك".
- وجه الدلالة:
أن الله تعالى أعلم بمن يجاهد في سبيله؛ فكيف ندعي علم ذلك بقولنا: "فلان شهيد"؟
- الرد:
من يصف القتيل المسلم في المعركة بـ"الشهيد" لا يجزم بأن هذا "الشهيد" كان يقاتل في سبيل الله، وإنما يشهد له بما ظهر منه، وهو أنه كان يقاتل في المعركة ضد الكفار مقبلاً غير مدبر، فقتل على هذه الحال، فاستحق أن ينال الوصف الشرعي له.
فالحديث لا ينهى عن وصف القتيل المسلم في المعركة بـ"الشهيد" وإنما فيه إشارة إلى تحريم الجزم بذلك، ووصفه بـ"الشهيد" في الدنيا؛ لا يلزم منه الجزم بمآله في الآخرة، كما بينت في الحلقة الماضية.
الحديث لا ينهى عن وصف القتيل المسلم في المعركة بـ"الشهيد" وإنما فيه إشارة إلى تحريم الجزم بذلك، ووصفه بـ"الشهيد" في الدنيا؛ لا يلزم منه الجزم بمآله في الآخرة
ب- حديث سَهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التَقَى هو والمشركون، فَاقتتلوا، فلمّا مالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى عَسكَره، ومالَ الآخَرون إلَى عَسكَرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ لا يَدَعُ لهُم شاذّةً ولا فاذّةً إلا اتَّبَعَها يَضربُها بسَيفه، فَقَال: ما أجزأ منا اليومَ أحَدٌ كما أجزأ فلاَنٌ.
فَقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمَا إنه من أهل النار).
فَقَال رجلٌ من القَوم: أنا صاحبُه.
قَال: فَخَرَجَ معه؛ كُلّما وَقفَ وَقفَ معه، وإذا أسرَعَ؛ أَسرَعَ مَعَهُ.
قَال: فَجُرحَ الرجُلُ جُرحاً شديداً، فَاستَعجَلَ المَوتَ، فَوَضَعَ نَصلَ سَيفه بالأَرض وذُبابَهُ بَينَ ثَديَيه، ثم تحامَلَ علَى سَيفه؛ فقَتَلَ نَفسَه.
فخَرَجَ الرجلُ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهَدُ أنك رسولُ الله.
قَال: (وما ذاك؟).
قَال: الرجلُ الذي ذكرتَ آنفاً أنه من أهل النار فأعظمَ الناسُ ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجتُ في طَلَبه، ثم جُرحَ جرحاً شديداً، فاستعجلَ الموتَ، فوضعَ نصلَ سيفه في الأرض، وذُبابَه بين ثديَيه، ثم تحاملَ عليه؛ فقتلَ نفسه.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجلَ ليعملُ عملَ أهل الجنةِ فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعملُ عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة".
- وجه الدلالة:
أن الحكم بالشهادة على القتيل المسلم في المعركة ضربٌ من الغيب لا يجوز، فهذا الرجل ظاهره أنه "قتيل في سبيل الله" ولكنه في النار لأنه قتل نفسه، فمن أين لنا أن نعرف ما في نفوس القتلى في المعركة حتى نحكم عليهم بأنهم شهداء، أو نجزم لهم بذلك.
نقل ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري (5/92) عن المهلب بن أبي صفرة قوله: "قولهم (ما أجزأ أحدٌ ما أجزأ فلان) فمدحوا جزاءه وغناءه، ففهم الرسول منهم أنهم قضوا له بالجنة في نفوسهم بغنائه ذلك، فأوحى إليه بغيب مآلَ أمره؛ لئلا يشهدوا لحيٍّ بشهادة قاطعة عند الله ولا لميت".
- الرد:
ليس في الحديث النهي عن وصف قتيل المعركة بـ"الشهيد" وإنما فيه النهي عن الجزم له بدخول الجنة لا محالة، ووصف الصحابة لهذا الرجل بما وصفوه؛ يدل على أنهم كانوا يصفون القتلى في سبيل الله بـ"الشهادة" بل هو صريح آثارهم التي ذكرناها في المقالة السابقة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم ذلك لولا أن الله أطلعه بالوحي على أن هذا الشخص بالذات ليس شهيداً، وإلا لبقي هذا الوصف لازماً له في الدنيا كما لزم غيره من قتلى المسلمين، ومآله إلى الله في الآخرة.
جـ- قول البخاري في الترجمة: "باب لا يقول فلان شهيد".
- وجه الدلالة:
أن الإمام البخاري - وهو المحدث الفقيه - نص على القول بتحريم وصف شخص بعينه بأنه "شهيد"، فما يضيرنا لو قلنا بقوله؟
- الرد:
لأن الحديثين اللذين ساقهما الإمام البخاري عقب هذه الترجمة لا يصلحان للاستدلال بهما على النهي المطلق عن قول "فلان شهيد"؛ تعلق القوم بترجمة الإمام البخاري لأنها صريحة في النهي عن ذلك، وحفظوها ورددوها أكثر مما رددوا الحديثين المذكورين آنفاً.
وبالإمكان الاكتفاء بالقول إن البخاري إمام يصيب ويخطئ، وهو - رحمه الله تعالى - يُستدَلّ له ولا يُستدلّ به، ثم المضيّ قدماً من غير الالتفات إلى قوله. ولكنّ قولاً لإمام موصوفٍ بالمحدث والفقيه معاً؛ لا يصلح أن يمر عليه المرء مرور الكرام، إذ لا بد أن قائله - وهو من هو - لم يقله إلا بعد نظر وبذل جهد في الاستنباط والترجيح.
نقل ابن بطال رحمه الله في شرحه على صحيح البخاري (5/92) عن المهلب بن أبي صفرة قوله: "في هذا الحديث ضد ما ترجم له البخاري؛ أنه لا يقال: فلان شهيد، ثم أدخل هذا الحديث وليس فيه من معنى الشهادة شيء، وإنما فيه ضدها.." وتتمة كلامه ذكرتها آنفاً.
وقال السندي في حاشيته على صحيح البخاري (2/67): "(باب لا يقول فلان شهيد) أي: بالنظر إلى أحوال الآخرة، وأما بالنظر إلى أحكام الدنيا؛ فلا بأس، وإلا يشكلُ إجراءُ أحكام الدنيا، والله تعالى أعلم" اهـ.
وقال العلامة محمد الطاهر بن عاشور: "هذا تبويبٌ غريبٌ، فإنّ إطلاقَ اسم الشهيد على المسلم المقتول في الجهاد الإسلامي ثابتٌ شرعاً، ومطروقٌ على ألسنة السلف فمَن بعدَهم، وقد ورد في حديث (الموطأ) وفي (الصحيحين) أن الشهداء خمسة غير الشهيد في سبيل الله، والوصف بمثل هذه الأعمال يَعتمدُ النظرَ إلى الظاهر الذي لم يتأكّد غيرُه، وليس فيما أخرجه البخاريُّ هنا إسناداً وتعليقاً؛ ما يقتضي منعَ القول بأن فلاناً شهيدٌ، ولا النهي عن ذلك.
فالظاهر أن مراد البخاريّ بذلك؛ أنْ لا يجزمَ أحدٌ بكون أحدٍ قد نالَ عند الله ثوابَ الشهادة؛ إذ لا يدري ما نواهُ من جهاده، وليس ذلك للمنع من أن يُقال لأحد: إنه شهيد، وأن تجريَ عليه أحكام الشهداء إذا توفّرت فيه، فكان وجهُ التبويب أن يكون: باب لا يُجزَمُ بأنّ فلاناً شهيدٌ إلا بإخبارٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم" اهـ.
الظاهر أن مراد البخاريّ بذلك؛ أنْ لا يجزمَ أحدٌ بكون أحدٍ قد نالَ عند الله ثوابَ الشهادة؛ إذ لا يدري ما نواهُ من جهاده، وليس ذلك للمنع من أن يُقال لأحد: إنه شهيد، وأن تجريَ عليه أحكام الشهداء إذا توفّرت فيه
أما ابن حجر رحمه الله؛ فتأول عبارة الإمام البخاري بقوله في "فتح الباري" (6/90): "(باب لا يقول فلان شهيد) أي على سبيل القطع بذلك إلا إنْ كان بالوحي".
وبعد أن نقل أثرين عن عمر وأبي ذر رضي الله عنهما حول المسألة - وسنتطرق إليهما لاحقاً - نقض كلامه الأول قائلاً: "وعلى هذا فالمراد النهي عن تعيين وصف واحدٍ بعينه بأنه شهيد، بل يجوز أن يقال ذلك على طريق الإجمال".
قلت: عبارة الإمام البخاري متعلقة بوصف واحد بعينه، وقد فسرها ابن حجر بقوله أي (على سبيل القطع) أي إذا وصف واحداً بعينه لا على سبيل القطع جاز، فكيف ينقض ذلك بقوله بعدُ: "وعلى هذا فالمراد النهي عن تعيين وصف واحد بعينه بأنه شهيد، بل يجوز أن يُقال ذلك على طريق الإجمال"؟!
ثم قال الإمام ابن حجر: "(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ولا يُطَّلع على ذلك إلا بالوحي، فمن ثبت أنه في سبيل الله؛ أُعطي حكم الشهادة، فقوله (والله أعلم بمن يُكلَم في سبيله) أي فلا يَعلمُ ذلك إلا من أعلمه الله، فلا ينبغي إطلاقُ كون كلِّ مقتول في الجهاد أنه في سبيل الله".
ثم عاد فنقض قوله هذا بقوله: "ووجهُ أخذ الترجمة من حديث سهل بن سعد أنهم شهدوا رُجحانه في أمر الجهاد، فلو كان قُتل لم يَمتنعْ أن يَشهدوا له بالشهادة، وقد ظهرَ منه أنه لم يقاتل لله، وإنما قاتل غضباً لقومه؛ فلا يُطلَقُ على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد لاحتمال أن يكون مثلَ هذا، وإنْ كان مع ذلك يُعطى حُكم الشهداء في الأحكام الظاهرة، ولذلك أطبق السلفُ على تسمية المقتولين في بدر وأُحد وغيرهما شهداء، والمراد الحكمُ الظاهر المبنيّ على الظن الغالب، والله أعلم".
ثم بعد كلام ردّ على قول المهلب بن أبي صفرة الذي نقلته عنه آنفاً؛ فقال: "وقد يُتعجَّب من المهلب حيث قال إن حديث الباب ضد ما ترجم به البخاري لأنه قال لا يُقال فلان شهيد، والحديث فيه ضد الشهادة، وكأنه لم يتأمل مرادَ البخاري، وهو ظاهر كما قررته بحمد الله تعالى".
قلت: أين هو هذا "الظاهر" وقد رأيت هذا "التردد" و"التضارب" في كلام ابن حجر رحمه الله، وكان يكفيه أن يقول: أخطأ البخاري في هذه الترجمة، وخالف ما عليه السلف من إطباقهم على وصف قتلى بدر وأحد وغيرهما بالشهداء، ولا يستقيم هذا الوصف بالقول إن ذلك كان منهم على سبيل الإجمال، إذ إنه قد ثبت عنهم وصف أفراد معينين قتلوا في المعركة بـ"الشهداء"، أضف إلى ذلك أن شهداء بدر كانوا أربعة عشر رجلاً فقط، فعن أي إجمال نتحدث؟!
ولو أن ابن حجر اكتفى بحمل عبارة البخاري على معنى الجزم والقطع؛ لهان الخطب، ولبدا كلامه متسقاً رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.