كثرت التصانيف والتآليف في تربية النفس وتهذيبها وتزكيتها، وفي كثير منها نفع عميم، لكن ضعف الانتفاع بها يرجع لخلل في نفس المتربي. في الجزء الثاني من المقالة نسلّط الضوء على الركنين الثانيين لتهيئة نفسك لتربية حقيقية وانتفاع صادق بما تتعلم.
1. الصراحة:
الصراحة في لسان العرب: "الْمَحْضُ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سُئِلَ مَتَى يَحِلُّ شِرَاءُ النَّخْلِ؟ قَالَ: حِينَ يُصَرِّحُ، قِيلَ: وَمَا التَّصْرِيحُ؟ قَالَ: حِينَ يَسْتَبِينُ الْحُلْوُ مِنَ الْمُرِّ". فالصراحة إذاً هي الإبانة والإيضاح والفرقان بما لا يبقى بعدها اختلاط بلبس أو إبهام.
وإذ ذاك، لا أمل في انصلاح أو إصلاح بسياسة التربيت على الانحرافات من بعيد ، وتلطيف الباطل تمهيدًا لترقيع الحق، والاستشهاد بفهم أعوج للقول اللين، إن اللين المقصود هو في منهج بيان الحق لا التفنّن في إخفائه! ثم لين إيصال الحق شيء، وثقل وطأة الحق على نفس من غرق في الباطل شيء آخر، إنك مهما توخيت اللطف في إبلاغ أحد بخبر وفاة مربتًا على كتفه، تصله وطأة الخبر كاللطمة على وجهه! ومهما وازنت بين ألفاظ "توفي"، أو"انتقل لرحمة الله"، أو"البقاء لله" عوضًا عن "مات"، تظل العبارة في النهاية إفادة بالموت.
إن اللين المقصود هو في منهج بيان الحق لا التفنّن في إخفائه!
وإذا كان ثمة تعليق على نهج التعليم أو أسلوب المعلّم، فليس هذا محله حاليًا؛ لأن الإشكال الذي أتكلم عنه متعلق بالمتعلم، إن ثقافة الذوق الاجتماعي وتأليه مبدأ مسايرة المجموع ولو على باطل، وخشية الانفراد ولو على حق، دفعنا لتبني سياسة التجمّل والتجميل بإطلاق وصل للتدليس والتلبيس، وصرنا نتحرج من قول الحق –أو اعتقاده- أشد من البقاء على الباطل، ونتأذى ممن يجاهرون بالحقائق مباشرة؛ لأن في ذلك قسوة لا تتناسب وآذاننا الرهيفة، التي تعودّت تغليف الحقيقة تغليفًا يطمسها عن الوصول لأسماعنا.
فالكِبْر صار اعتدادًا بالنفس، وبذاءة اللسان صارت جرأة في الشخصية، وخنوع الطبع صار حياء، وضحالة العلم يغفر لها بريق الاستعراض وهزلية التنكيت، والانغماس في الناس غدا ذكاء اجتماعيًا، والمزاجية صارت شغفًا، ومراد الله انقلب نكدًا وتحقيق العبودية استحكم لغزًا... إلخ. ولا يخفى أن كل تلك التجملات والترقيعات تؤدي لمخرج هو ما يحببها لعموم الناس: (إلقاء اللوم على أي أحد وكل شيء إلا النفس!)
لا بدّ لطالب إصلاح نفسه أن يواجهها مواجهة صريحة ، ويصدق في توصيف إشكالاتها، وصياغة آفاتها، وتعيين محاسنها؛ لأن ذلك قوام معرفة نفسه، وإلا كيف يمكن أن تعرف شخصًا يتستّر وراء قناع؟ومن يريد معلّما يلفه بالقطن ويسقيه الإصلاح بالعسل، فليتجه للخلّاط المذكور أعلاه، وإلا فإنه لن يجد مثل ذلك، فبغض النظر عن نهج المعلّم نفسه، طبيعة سبيل الإصلاح أنه قائم على وزن "مفاعلة" (مجاهدة، مصابرة مكابدة..)، وهذا الوزن ليس من أوزان العسل في العربية، فمن يريد أن تنصلح نفسه وهو مرتاح سيتعب، ومن يروم التعب في إصلاح نفسه هو من سيرتاح.
2. الأصالة والجذور:
لاحظت بصورة عامة، من مجموع من تواصلت معهم عبر مختلف الندوات والدورات، انقسام الناس في ردود أفعالهم مما يسمعون أو يقرأون لقسمين رئيسيين:
قسم يستشعر راحة عظيمة ووضوحاً يُبسّط ما كان عنده من تعقيدات، وقسم يرعبه ما تبدّى له من صعوبة لما كان يظنه مسائل بسيطة.
فما الوسط بين سذاجة التسطيح وغمّ التعقيد في تعاملنا مع هذا الوجود وموقعنا منه، وأدوارنا فيه؟
الوسط هو العلم الصحيح، هو الذي به يمكن أن تجمع بين حكمة المرونة وثبات الانضباط، وإحدى مآخذي الطويلة على مجال التنمية البشرية وأسلمتها الباهتة، هي منهجية "الخلّاط" التي تقوم عليها، فالعلم بالنفس والاشتغال بتقويمها صار مجموعة معادلات وقواعد ومقولات، اجمعها معًا واضربها في خلّاط التعريب والأسلمة، ثم اسكبها بين الناس في حقائب تدريبية، وقوائم خطوات وخرائط ذهنية، وبهذا تمت تنمية الإنسان وصوغ نفسه! والحق أن الشيء الوحيد الذي تم هو تجارة رائجة في بيع الأوهام، واستحداث تصنيف وظيفي غالي الثمن لذوي المهارات الاستعراضية، والحركات المسرحية، و"السوفت سكيلز"!
وتأمل في التناسب الطردي بين رَوَاج سوق التنمية البشرية واتساع الفجوة بين الإنسان وتنمية نفسه، لتدرك أنه لا تنمية حقيقية يمكن أن تتم حتى يبدأ الإصلاح من الجذور أولًا، لا الترقيع فوقها ولا التلميع من حولها. وعلى أساس من المكابدة والمجاهدة والمصابرة، التي هي غاية رحلة العمر، وليست مجرد محطة أو بضع خطوات في جدول، تفرّغ بعدها من إصلاح نفسك لتعيش حياتك! بل إن تكليف حياتك هو إصلاح نفسك وعمرانها بالأساس، ثم يكون بعده تلقائيًا وتَبَعًا عمران ما تتصل به، مما حولك أو من حولك.
تأمل في التناسب الطردي بين رَوَاج سوق التنمية البشرية واتساع الفجوة بين الإنسان وتنمية نفسه، لتدرك أنه لا تنمية حقيقية يمكن أن تتم حتى يبدأ الإصلاح من الجذور
ولأن الناس تفزع من طلب العلم الحق، وتتكاسل عن التطبيق الفعلي على كل حال، ترتمي في أحضان ذلك الخلاط لتدور معه والسلام، فتجمع بذلك بين الحُسنيين: تحصيل العذر ببذل جهد ما، والحفاظ على الراحة بعدم بذل جهد حقيقي.
والتأسيس الصحيح من البداية مهما بدا مشوارًا طويلًا، خير من الاستمرار في الترقيع والتلميع على خطأ سيزيد المشوار طولًا وغمًا معًا ؛ لأنه إذا كان العلم كَبَدا ومشقة، فالجهل نكد وشقاء.
ومن لم يبدأ في مرحلة ما، لن يصل يومًا ما.