أربعة أركان لتهيئة النفس قبل طلب العلم والتزكية (1-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » أربعة أركان لتهيئة النفس قبل طلب العلم والتزكية (1-2)
muslim- praying

كثرت التصانيف والتآليف في تربية النفس وتهذيبها وتزكيتها، وفي كثير منها نفع عميم، لكن ضعف الانتفاع بها يرجع لخلل في نفس المتربي! هذه المقالة في جزأين تسلّط الضوء على أربعة أركان لازمة لتهيئة نفسك لتربية حقيقية وانتفاع صادق بما تتعلم.

1. الركن الأول: النفسية.

النفسية الوحيدة التي تؤهل المتعلم ليتعلم علمًا حيّاً، هي نفسية المتعلم لنفسه، ومن أشدّ ما يسوؤني في آفات التعلم بعد التكاسل نفسية المتعلم ليعلم غيره، خاصة في نوع العلوم التي تُطلب بالأساس؛ لتقويم النفس وإصلاحها.

والخطر الأول لنفسية المتعلم للتصدر هو زوغان بصره؛ لأنه ملتفت للبريق الاجتماعي والتفوق على الأقران والنجومية وسط الآخرين، فأنّى يَجمَع شتات فكره على التمكن من قلب العلم وهو مشغول بتكويم أطرافه؟!

ثم الخطر الثاني والمترتب على الأول، نفسية النَّهَم المعرفي، فيميل المتعلم لتكتيل المراجع وتجميع قوائم المصادر، ولا يكاد يصبر على إتمام مرجع، بل يتقافز بين العناوين ليَشُم –ولا أقول يَقطِف– من كل بستان زهرة، فيظن أنه بتجربة الروائح تَحمّم بعطرها!

والسُّعار المعرفي لا يُشبِع، بل يُورِث صاحبه العجلة وسرعة التململ، والمتعجّل لا يفقه، ومن لم يفقه لم يتعلم؛ لأن العلم الحيّ ما وقر في الصدر لا ما قُـيِّد على السطر ثم طُوِيَ هناك!

المتعجّل لا يفقه، ومن لم يفقه لم يتعلم؛ لأن العلم الحيّ ما وقر في الصدر لا ما قُـيِّد على السطر ثم طُوِيَ هناك!

والخطر الثالث: استشعار المتعلم الضمني لعدم حاجته للعمل بما تعلم، بل اتخاذ تعليم الغير عملاً، وليس في التعليم إشكال لو أن المعلم لا يستثني نفسه مما يُعلِّم ، وما من شيء يتعلمه المرء إلا وفيه إضافة ما لنفسه، وآفة التعليم والمعلمين الكبرى في عالمنا اليوم استغناؤهم عن تمثل ما يُعلّمون، وبالتالي صرنا في حاجة للفصل –والفصم- في الغالب بين ما يعلمه معلّم ما وبين ما هو عليه، فأنّى يكون المعلم قدوة؟! وأنّى يكون العلم المنقول علماً صالحاً للأحياء إذا كان منقولًا ميتاً؟!

2. الجِدّية:

كم منّا يشكو من جفوة بينه وبين القرآن! حتى عند من يداوم على وِرد يومي، كم مضى على تلك الجفوة؟

كم منا أخذ تلك الشكوى بجدية! وجعل همّه البحث عن حل لها بتصميم صادق! كم مضى في ذلك البحث؟

كلما سُئلت عن رأيي في حل لإشكال ما فاقترحت ما عندي، تتكرر على مسامعي عبارة : "لكن هذا يستغرق وقتًا"، وما تزال هذه العبارة على تكرارها تدهشني حقيقة؛ لأنه من الطبيعي أن يأخذ كل أمر في الحياة وقته، فما الجديد في ذلك؟!

لذلك صرت أتجاوز ظاهر العبارة التقريري لحقيقتها التخاذلية، المرادفة لقولك : "إن هذا يتطلّب جهدًا، ويمكنني إنفاق الوقت بالسنوات في الكسل والنوم والارتماء أمام التلفاز، لكن من العسير جدًا أن أتخيل نفسي –ناهيك أن ألزمها- تنفق وقتًا في العمل الجاد على أمر ما، ونفسي لا تملُّ من الاستمرار في التحديق الأجوف بشاشة الهاتف عبثًا، لكنها بالتأكيد ستمل من الاستمرار في العمل الجاد على ذلك الإشكال".

إننا نقضي في البكاء على مشكلاتنا والدوران حولها أضعاف ما نقضي في تجربة حلول مختلفة بجدية، بما يفضي إلى حل فعلاً، أو حتى إلى ارتضاء عدم وجود حل والتسليم بالتعايش معها، (وهذا في حد ذاته حل).

إننا نقضي في البكاء على مشكلاتنا والدوران حولها أضعاف ما نقضي في تجربة حلول مختلفة بجدية

والجدّية لا تنبع إلا من نفسية المتعلم لينصلح ؛ لأنه وحده من سيكون مشغولًا باستحياء ما يتعلم، أي محاولة الحياة به، وهو وحده من عنده الدافع ليثابر ويصابر دون سباق "ضد" الزمن، أو تنافس "على" الأقران!

وأول الاستحياء التفكّر، وأقصد به هنا المحاولة الجادة ممن تعلم أن ينظر في شأن نفسه وحاله: هذا الذي تعلمته كيف أحيا به؟ ما نوع الحياة الممكنة به فكريًا أو وجدانيًا أو سلوكيًا أو اجتماعيًا...؟ ما الذي يمنعني من ذلك؟ ما الذي يعين على ذلك؟

إن كتب التزكية ومصنفات علم النفس تملأ حرفيًا أركان الوجود، لكن فهم المرء لنفسه لا يتأتى إلا من عناية المرء بفهم نفسه، ودقة توصيفه لإشكالات النفس ودهاليزها لا تكون إلا من متابعته لإشكالات نفسه هو ودهاليزها، ودقة تصانيف السلف في المجال كان الثمرة الحقة لمكابداتهم مع نفوسهم أولًا، لكننا نقبل على مطالعة تجاربهم لنسقطها على غيرنا!

وإذا كنا سنتكلم عن مهارة أو فن، فتحويل ما تتعلم لأسئلة تفكرية فن واجب ، وفي المثال الذي بدأنا به عن الصلة بالقرآن إذا وجدت نفسك تسرح أثناء القراءة، اسأل نفسك:

- لماذا أسرح؟ هل أشعر بالملل؟ لماذا؟

- هل المفردات مستعصية عليّ؟ أم أنني لا أجتهد كفاية في التركيز؟

- هل يمكنني جمع تركيزي لخمس دقائق؟

- لماذا لا أبدأ بقراءة تفسير الآيات على تطبيق قبل تلاوتها وأستحضر معانيها؟

استمر في سلسلسة التساؤلات وتجربة مختلف الإجابات، ولا يكن همّك تعجّل الوصول لـ "الإجابة"، بل انسجم في معايشة رحلة إيجاد الجواب كيفما تستغرق، وفي كثير من الأحيان تكون الإجابة هي رحلة التساؤل ذاتها.

وإذا كان ما تعرفه يُنمّيك، فما لا تعرفه يُربّيك .

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …