تمهيد:
ذهب أحد المرضى لطبيب ما، قام هذا الطبيب بتشخيص الداء بشكل صحيح، ثم وصف الدواء الذي بدأ المريض تناوله على الفور حسب الجرعات التي حددها الطبيب بدقة، ما احتمالات فشل البرء من الداء؟
سيجيب أحدهم أن نسبة الفشل صفر بالمائة، وسيجيب آخر أن نسبة الفشل نسبة ضئيلة؛ لأن الأمر يعتمد أولاً وأخيراً على الإرادة الإلهية.
وبالنظر في الجوابين، فإن الاثنين أجمعا على أن نسبة نجاح الدواء هي النسبة الأكبر على الإطلاق.
فماذا إذا لم يبرأ المريض؟ سنعزو الأمر إما لتقصير المريض في تعاطي الدواء، أو عيب في الدواء نفسه، أو عيب في التشخيص وعدم قدرة الطبيب على الوصول للسبب الحقيقي للمرض، ولن يسلّم أهل المريض أبداً بقدرية الأمر، بل سيضاعفون الجهد ويبحثون عن حل آخر لدى طبيب آخر، أو بدواء آخر، هذا غير جهد الطبيب نفسه الذي قد يستعين بآخرين في نفس مجاله، لكنه في كل حال، لن يقتل مريضه بمجرد انتظار فعل الأقدار فيه.
الابتلاء والفهم المغلوط:
قياساً على المثل السابق، فقد وقع جانب كبير من الحركة الإسلامية في فخ الفهم الخاطئ لمعنى الابتلاء، ودفع الكثيرون من أبنائها ثمناً باهظاً من حياتهم وحرياتهم واستقرارهم ومستقبل حركتهم نتيجة هذا الفهم، وكأن إرادة الله عز وجل توقفت عند تعذيب المؤمنين والأحرار، والباحثين عن حقوقهم، ونسوا أن القاعدة الأساسية هي برء المريض، وليس استمراره في معاناته، طالما أن اختيار الطبيب كان مناسباً لنوع المرض، وتشخيصه من البداية كان صحيحاً، والدواء المعطى كان مناسباً لقدرة المريض على تحمّله، الأصل كان البرء والاستجابة ولو ببطء، وأن القدر لا يتدخل إلا لمصلحة المريض.
وقع جانب كبير من الحركة الإسلامية في فخ الفهم الخاطئ لمعنى الابتلاء، ودفع الكثيرون من أبنائها ثمناً باهظاً من حياتهم وحرياتهم واستقرارهم ومستقبل حركتهم نتيجة هذا الفهم، وكأن إرادة الله عز وجل توقفت عند تعذيب المؤمنين والأحرار، والباحثين عن حقوقهم
بمعنى أن الاختيار الصحيح من البداية هو قدر، وتوفيق الله للطبيب في التشخيص هو قدر، وتوفيق المريض للحفاظ على البرنامج أو المنهج الموضوع له هو من أقدار الله تبارك وتعالى، وأما تأخر الابتلاء فهو أساس المرض، وأساس الألم التي تحملها المريض الذي ذهب راغباً في البرء مما ألمّ به.
إن محاولة إلصاق القدرية بتأخر تأثير الدواء هو إشكالية أخرى قد تودي بحياة المريض، وهو الاستثناء لا القاعدة، فأين هو الابتلاء هنا؟ وما هو الابتلاء؟
وكيف يكون ابتلاء وليس محنة، أو أزمة؟ هذا ما ستجيب عنه هذه الأسطر:
مفهوم الابتلاء:
في مقاييس اللغة لابن فارس: لفظ الابتلاء مأخوذ من مادة (ب ل و)، التي تدل على نوع من الاختبار، ويكون البلاء بالخير والشر، واللّه عز وجل يبلو العبد بلاء حسناً وبلاء سيئاً، وذلك راجع إلى معنى الاختبار؛ لأنه بذلك يختبر صبره وشكره، وبلوته تأتي أيضاً بمعنى جزيته.
أما اصطلاحاً فيعني التكليف في الأمر الشّاقّ، ويكون في الخير والشر معًا، ولكنهم عادة ما يقولون في الخير: أبليته إبلاء، وفي الشر: بلوته بلاء (الكليات للكفوي). وقال المناوي: البلاء كالبلية: الامتحان، وسمي الغم بلاء؛ لأنه يبلي الجسد.
فالابتلاء هو الاختبار الشديد، التكليف الخارج عن إرادة النفس وهواها، فالجهاد ابتلاء، فيه احتمالية القتل، واحتمالية الإصابة، واحتمالية الهزيمة، وكلها معانٍ بغيضة للنفس الإنسانية، فهل يوقف الخوف من الموت أن يقوم المسلم بالجهاد؟ ذلك هو مناط الابتلاء.
هل يقبل؟ هل يثبت؟ هل يكمل الطريق؟ فالثبات نجاح، وتغيير الخطط وفقاً لما تقتضيه الحاجة نجاح، والكرّ والفرّ نجاح، والإصرار على البقاء في الطريق رغم مشقته ومضايقات العدو وبأسه نجاح، فالابتلاء إذن هو متاعب الطريق الصحيح، ومواجهتها ومجابهتها، والسير فيه حتى النهاية.
فماذا إذا كان التشخيص خاطئاً منذ البداية؟ سيترتب على الأمر أن يكون الدواء المعطى ليس هو الدواء المطلوب، فيدخل المريض في أزمة، ويدخل الطبيب المعالج في محنة، والمحنة هي الابتلاء الشديد له، ومكمن الامتحان هنا هو هل يعيد تفكيره ويصلح من قد يكون ابتعد به عن جادة الطريق، ويصر على الاستمرار فتكبر أزمة المريض، وربما تكون نهايته أو مضاعفة آلامه؟
مفهوم الأزمة
في قاموس "المصباح المنير" يعرف الأزمة: بمعنى الشدة والقحط، ويقال أزم علينا الدهر، أي اشتد وقلّ خيره، أو أزمت عليهم السنة: أي اشتد قحطها.
وفي القواميس العربية المتخصصة في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد، أشارت إلى أن الأزمة هي نقطة تحول، وحالة متوترة للانتقال، ويمكن القول أنها وضع أو فترة حرجة وخطرة، وهي حالة علمية تطورية يحدث فيها انفصام التوازن.
أما اصطلاحاً فهي خلل مفاجئ نتيجة لأوضاع غير مستقرة، يترتب عليها تطورات غير متوقعة، نتيجة عدم القدرة على احتوائها من قبل الأطراف المعنية، وغالباً ما تكون بفعل الإنسان.
الأزمة بمعناها العام والمجرد: هي تلك النقطة الحرجة واللحظة الحاسمة التي يتحدد عندها مصير تطورها، إما للأفضل وإما للأسوأ، الحياة أو الموت، الحرب أو السلم؛ لإيجاد حل لمشكلة ما، أي أننا نستطيع أن نوضح مفهومها ببساطة بأنها مشكلة طارئة نتيجة أخطاء بشرية متعمدة أو غير متعمدة.
الأزمة بمعناها العام والمجرد: هي تلك النقطة الحرجة واللحظة الحاسمة التي يتحدد عندها مصير تطورها، إما للأفضل وإما للأسوأ، الحياة أو الموت، الحرب أو السلم؛ لإيجاد حل لمشكلة ما
وتتسم الأزمة بأنها يمكن مواجهتها وحلّها، وذلك بعدة طرق أذكر منها:
1 ـ محاولة تفتيت المشكلة، أو تجزئتها، أو تفكيكها لمشكلات أبسط يمكن مواجهتها على مراحل، أو بوسائل مختلفة على التوازي.
2 ـ تغيير الاتجاه بشكل مفاجئ، ولا يعني تغيير الاتجاه أن يسير القائم عليها في اتجاه معاكس لمساره الأصلي، بالعكس، وإنما بتصحيح مساره الذي نأى عنه، فأدى به لحدوث الأزمة أو المشكلة الطارئة، فهي في الحقيقة تصحيح مسار، وإن كان يقتضي تغيير الاتجاه للوجهة الصحيحة مع العلم أن الوقت المستغرق في تصحيح المسار وإن رآه البعض طويلاً، إلا أنه أقل بكثير من كلفة الاستمرار فيه إلى نهاية، ولأوضح تلك النقطة سأطرح مثالاً لتقريب المفهوم.
إذا كنت مسافراً من مكة إلى المدينة المنورة، وسألت أحدهم عن الطريق، أولاً سيجيب عن الاتجاه، فالمدينة في اتجاه الشمال من مكة، تبعد عنها حوالي أربعمئة كيلو متر، الزمن اللازم للوصول أربع ساعات هذا على سبيل التقريب، فيصبح لزاماً على المسافر أن يوجه بوصلته إلى الشمال، ثم يراقب ساعته، فبعد ساعتين يجب أن يكون قطع نصف المسافة، ويجب أن يجد أن العلامات المرشدة على الطريق تشير بذلك.
لكن ماذا إن وجد أن الإرشادات المعلقة على جانبي الطريق تشير للمسافة لمدينة أخرى؟ يعني ذلك أنه قد أخطأ في الاتجاهات، ومن الغباء أن يكمل في نفس الطريق ليكمل المتبقي من الوقت، في حين أن علامات الطريق تشير إلى خطئه في الاتجاه، ويلزمه لحل تلك الأزمة أن يعيد الكرة، ويبدأ من جديد، ويصحح المسار، أفضل كثيراً من الوصول لنهاية طريق ليس هو هدفه من الأساس، وإن اضطر في سبيل ذلك لخسارة بعض الوقت الذي ساره في طريق خاطئ، فهو أصح من الاستمرار في طريق خاطئ.
مما سبق يتضح أن مفهوم الابتلاء يعرض على الناس بشكل مغلوط، فالابتلاء هو الاختبار، ويكون التعامل معه وفهمه كما يتم التعامل مع الاختبار، يجب فيه بذل الجهد اللازم لاجتيازه بنجاح وتفوق وسلامة، وأن وسائل السلامة تعتمد اعتماداً كلياً على أسباب وضعها الله عز وجل، مع الاعتماد الكلي في ذات الوقت على توفيق رب العالمين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يأخذ بالأسباب كأنه لا يوجد غيرها، ويتوكل على الله كأنه لا يملك غيره، وذلك التوازن هو مناط الاختبار، وهو روح الدين ورؤيته ومناط اختبار قلب المؤمن وجوارحه.
الابتلاء هو الاختبار، ويكون التعامل معه وفهمه كما يتم التعامل مع الاختبار، يجب فيه بذل الجهد اللازم لاجتيازه بنجاح وتفوق وسلامة
إن الله عز وجل لم يضع الابتلاء ليعذب به المؤمنين والسائرين على طريقه، وإنما وضعه؛ ليصطفيهم ويرقيهم ويميزهم عن غيرهم ممن تنقطع بهم الأنفاس عن الاستمرار في الطريق الموصل إليه سبحانه، وكتب سبحانه التوفيق لأوليائه بالنصر في الدنيا، ولو تأخر لسبب من الأسباب، والجزاء العظيم في الآخرة بجنة عرضها السموات والأرض.
فلنصحح مفاهيمنا، ونأخذ بالأسباب اللازمة لتجاوز أزمتنا القائمة.