تعد #العولمة من أهم التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة، وقد غزت ليس كل بلاد المسلمين فحسب، وإنما غزت معظم بيوتهم وعقول أبنائهم عبر وسائل الإعلام المتعددة التي لا يخلو منها بيت، وعبر لقمة العيش التي يتناولونها كل يوم، مغموسة باتفاقيات دولية تفرض علينا أن نكون جزءاً من هذا العالم كمستهلك وسوق لتجارته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولذلك أصبح واجباً علينا قبل أن نطالب البعض بمواجهة مخاطر العولمة أو استثمارها، أن نعي ماهية العولمة أولاً، ثم ما هو تأثيرها على هويتنا الحضارية والثقافية.
مفهوم العولمة لغة واصطلاحاً:
العولمة لغة -في معجم المعاني الجامع-: عَولَمة ( اسم) مصدر عولمَ.
عولمة رأس المال: تزايد التَّرابط والاتِّصال بين الأسواق المختلفة.
عولمة الثَّقافة: تزايد الصِّلات غير الحكوميّة، والتنسيق بين المصالح المختلفة للأفراد والجماعات فيما يُسمَّى بالشَّبكات الدَّوليّة.
يقول الدكتور "محمد عابد الجابري": "ومن خلال المعنى اللغوي يمكننا أن نقول بأنّ العولمة إذا صدرت من بلد أو جماعة فإنها تعني: تعميم نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد أو تلك الجماعة، وجعله يشمل الجميع أي العالم كله".
العولمة اصطلاحاً:
ويشرح الجابري تفصيلاً معنى العولمة اصطلاحاً، فيقول: "يعتبر لفظ العولمة من المصطلحات الجديدة التي لم تستخدم إلا حديثاً، باعتبار الحاجة إليها، وقد ظهرت في عالم التجارة والمال، ثم تعدت ذلك المعنى لتشمل عالم السياسة والاقتصاد، ولتتحول لنسق عالمي في المعاملات السياسية، أو "نظاماً أو نسقاً أو حالة ذات أبعاد متعددة، تتجاوز دائرة الاقتصـاد، فتشـمل إلى جانب ذلك المبادلات والاتصال والسياسة والفكر والتربية والاجتماع والأيديولوجيا، وهي تعني ببساطة تحويل الأمر المحلي البسيط إلى أمر عالمي واسع الانتشار".
وللعولمة عدة تعريفات مصطلحية يمكن أن نفهم منه المقصود العالمي لها، نستخلص منها:
تعريف "جيمس روزانو" -أحد علماء السياسة الأمريكيين- فيقول: "إنّها العلاقة بين مستويات متعددة لتحليل الاقتصاد والسياسة والثقافة والأيديولوجيا، وتشمل: إعادة الإنتاج، وتداخل الصناعات عبر الحدود وانتشار أسواق التمويل، وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول نتيجة الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة".
ووصفها الكاتب الأمريكي المعروف "وليم جريدر": "بأنها آلة عجيبة نتجت عن الثورة الصناعية والتجارية العالمية، وأنّها قادرة على الحصاد وعلى التدمير، وأنّها تنطلق متجاهلة الحدود الدولية المعروفة، وبقدر ما هي منعشة، فهي مخيفة، فلا يوجد من يمسك بدفة قيادتها، ومن ثمّ لا يمكن التحكم في سرعتها ولا في اتجاهاتها".
أهداف العولمة:
إن الفقراء والضعفاء الذين كانوا مادة الترويج للعولمة هم وحدهم ضحاياها، وبما أن الحضارة الإسلامية تمر بأضعف حالاتها، فهي معرضة للذوبان فيها إن لم تستطع الصمود أمام ذلك التحدي الكبير الذي يواجه الأمم المستضعفة.
وللعولمة تأثيرات تكاد تكون هدّامة على معظم الجوانب الحياتية للإنسان المعاصر، فالعولمة لها أهداف اقتصادية وثقافية، واجتماعية، ودينية، وأخلاقية، تقترب من الأهداف الاستعمارية، بل هي استعمار من نوع جديد لن يسلم منه إلا من كسب معركة الوعي وإثبات الهوية.
العولمة لها أهداف اقتصادية وثقافية، واجتماعية، ودينية، وأخلاقية، تقترب من الأهداف الاستعمارية، بل هي استعمار من نوع جديد لن يسلم منه إلا من كسب معركة الوعي وإثبات الهوية
أ. الأهداف الاقتصادية:
تعتمد العولمة على تدويل النظام الاقتصادي الرأسمالي؛ حيث تمّ توحيد الكثير من أسواق الإنتاج والاستهلاك، وتمّ التدخل الأمريكي في الأوضاع الاقتصادية لدول العالم الثالث عبر المؤسسات المالية الدولية: كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
يقول الدكتور "صالح الرقب": "إن العولمة تحقق عدة مصالح اقتصادية"، وذكر منها:
أولاً: السيطرة على رؤوس المال العربية، واستثماراتها في الغرب، فالعالم العربي الذي تتفاقم ديونه بمقدار(50) ألف دولار في الدقيقة الواحدة، هو نفسه الذي تبلغ حجم استثماراته في أوروبا وحدها (465) مليارا دولار عام (1995م)، بعد أن كانت (670) ملياراً عام (1986م)، فنتيجة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتبعية النفسية للغرب تصب هذه الأموال هناك؛ لتدار حسب المنظومة الغربية.(الفتوح، البيان: 136).
ثانياً: الهيمنة الأمريكية على اقتصاديات العالم من خلال القضاء على سلطة وقوة الدولة الوطنية في المجال الاقتصادي، بحيث تصبح الدولة تحت رحمة صندوق النقد الدولي، حين تستجدي منه المعونة والمساعدة عبر بوابة القروض ذات الشروط المجحفة، وخاضعة لسيطرة الاحتكارات والشركات الأمريكية الكبرى على اقتصاد الدول.(أبو زعرور، 1998: 13، المبروك وآخرون، 1999م: 136).
ثالثاً: تحقيق مصالح المجموعات الغنيّة في الدول الغربية والقوى المتحالفة معها في الدول الأخـرى، علـى حسـاب شـعوب العالـم، وممّا يدل على ذلك فشل تجربة "النمور الآسيوية": ومنها إندونيسيا وماليـزيا، حيث لم تسـتطع تحقيـق المصالح الاقتصـادية المطلـوبـة لشـعوبها، إذ عملت الشركات المتعددة الجنسيات على إحداث هذا الفشل، وقام أحد المستثمرين الأجانب-أحد رموز العولمة- الملياردير "جورج سورش" باللعب في البورصة، مما أدى إلى ضرب التجـارة التنمويـة وإحباطهـا.(المبروك وآخرون، 1999: 125،126، بهاء الدين،81:2000)
ب. الأهداف السياسية:
وكما أن الأهداف الاقتصادية للعولمة مصوبة نحو الهيمنة على اقتصاد دول العالم الثالث، فكذلك الأهداف السياسية موجهة للسيطرة على الأنظمة والشعوب، يقول "جون بوتنغ" -رئيس المدراء التنفيذيين السابق في بنك بنسلفانيا-: "في العولمة نحن نقرر من الذي سيعيش ونحن نقرر من الذي سيموت"، ويقول الدكتور "صالح الرقب": "إنّ العولمة الأمريكية الصهيونية تخطط للتدخل العسكري، وإعلان الحرب في أية بقعة من العالم، تفكر بالخروج على سيطرتها وتحكمّها؛ لأنّ العالم يراد له أن يقع تحت براثن الاستبداد الأمريكي، والقانون الأمريكي، والقوة العسكرية الأمريكية، وهو أمر يكشفه تقريران خطيران كانا سريين للغاية، ثم نُشرا بعد ذلك، وهما تقريرا "جريميا وولفوفتيز".
وفي خضم تأثير العولمة على الشعوب بشكل سلبي، يقول "ريتشارد كاردز" -المستشار الأسبق لوزارة الخارجية الأمريكية-: "إنّ تجاوز السيادة الوطنية للدول قطعة قطعة يوصلنا إلى النظام العالمي بصورة أسرع من الهجوم التقليدي".
ج. الأهداف الثقافية:
وعلى مر التاريخ القديم والحديث، استطاعت الشعوب أن تحتفظ بهويتها وطباعها الخاص سياسياً، ودينياً؛ لحماية نفسها من الذوبان في الحضارات الأخرى، واليوم لم تكتف العولمة بفرض هيمنة ثقافة حضارة على حضارة أخرى، وإنما تحاول إزالة تلك الثقافة واستبدالها بثقافة أخرى مغايرة تماماً.
ويساعد على ذلك للأسف حالة الانحطاط الحضاري، والضعف التاريخي التي يمر بها العالم الاسلامي، مما ساهم بشكل كبير لتحويل الشخصية العربية المسلمة لشخصية استهلاكية من الطراز الأول، ليكون مجرد متلق لمنتجات حضارة الآخر، دون أن يجد أدنى غضاضة في ذلك، بل إنه صار يقيس مدى تقدمه أو تخلفه بما يقتنيه من منتجات تلك الحضارة الغريبة!
لم تكتف العولمة بفرض هيمنة ثقافة حضارة على حضارة أخرى، وإنما تحاول إزالة تلك الثقافة واستبدالها بثقافة أخرى مغايرة تماماً
د. الأهداف الدينية:
وبما أن مصدر العولمة هو الغرب الصليبي، والذي ما زال حتى اليوم يعلن الحالة بينه وبين المسلمين بأنها (حرب صليبية مقدسة)، يقول الدكتور "جلال أمين": "وهناك من يكره العولمة لا لسبب اقتصادي، بل لسبب ديني، فالعولمة آتية من مراكز دينها غير ديننا، بل هي قد تنكرت للأديان كلها، وآمنت بالعلمانية التي لا تختلف كثيراً في نظر هؤلاء عن الكفر".
وها نحن نرى أثر العولمة على العالمين العربي والإسلامي في إقصاء الإسلام عن الحكم، ومحاربة كل من يمثّله حتى لو اضطرت لمحاربة إرادة الشعوب في اختياراتها الحرة.
هـ ـ الأهداف الاجتماعية:
إن من المخاطر الاجتماعية التي تسببها العولمة أنها تدفع للحرية الفردية، ليست الحرية الإيجابية البناءة التي تحرر روح الإبداع، وإنما التحرر من الأخلاق والدين والموروثات.
إن من المخاطر الاجتماعية التي تسببها العولمة أنها تدفع للحرية الفردية، ليست الحرية الإيجابية البناءة التي تحرر روح الإبداع، وإنما التحرر من الأخلاق والدين والموروثات
مما سبق، يتضح لنا مدى خطورة العولمة على ثقافة وتوجه أي بلد تغزوه أفكارها، فهي لا تسمح بالمشاركة، وإنما لا تقبل بأقل من محو أي موروث ثقافي –خاصة- لو كان مرتبطاً بالثوابت الدينية، وقد يقول البعض أن الإسلام دين عالمي، ويسعى لنفس ما تسعى إليه العولمة من عملية إحلال ثقافي وسيطرة فكرية على الآخر، والحقيقة أن ذلك ظلم للعقل البشري الذي يستطيع أن يفرّق جيداً بين دين سماوي أتى بالعدل والرحمة والهداية والحرية والمساواة الحقيقية، وليست الشعارات البرّاقة، ليتساوى مع غزو فكري وثقافي من بيئات لا دينية، أتت للسيطرة ونهب المقدرات الإنسانية لصالح مجموعة من الأفراد تقتات على الإنسانية كلها.
إن الإسلام دين عالمي، أتى للخلق كافة، فقال تعالى في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ، الآية:28].
إنه تحد كبير يواجه الأمة الوسط في مسيرتها التصحيحية في اتجاه استعادة مكانتها الحضارية ودورها الرباني.