إن إطالة التدبُّر في كتاب الله تعالى، مما يدرك معه الإنسان أنه أمام معجزة حقيقية، وأنه من لدن حكيم عليم، حيث لا نجد أنفسنا أمام محتوى مقروء فحسب، وإنما أمام أداة عملية لها الكثير من الخصائص والتأثيرات التي تتجاوز مفهوم الكتاب والصحائف الذي يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن نصٍّ مكتوب.
فالتعامل مع النص القرآني مفيد في أكثر من اتجاه؛ فلا يتعلق الأمر -فحسب- بصحائف تضم تعاليم الله تعالى وشريعته الخاتمة، وعبر وعظات من قصص السابقين، أو نظرة استشرافية مستقبلية على الدنيا وما تبقى منها، والآخرة وأحداثها، على أهمية ذلك بطبيعة الأمر، ولكنه أيضًا يُعتبر أداة على أكبر جانب من الأهمية في تطوير الإنسان.
فالقرآن الكريم إنما هو الكتاب الذي يحدد للمسلم بوصلته في هذه الحياة ، وهو أمر قد ننظر إليه على أنه أمر بديهي، ولكن لو اطلعنا على الفلسفات الوضعية، والديانات الأخرى، لعلمنا أن هذا الأمر من أكثر ما يؤرِّق المعتقدين في هذه الفلسفات والعقائد، هو غياب بوصلة التوجيه هذه.وهذا الأمر قد يصل حتى ببعضهم، برغم أنهم قد يكونون من أبناء مجتمعات متقدمة في المجال المادي والمجتمعي، إلى الانتحار، بسبب إحساسهم بعبثية وجودهم في هذه الحياة، وعدم وجود ما يرشدهم فيها إلى حقيقتهم وحقيقة دورهم.
وهذا الأمر متصل بمهمة شديدة الأهمية أرادتها حكمة الخالق عز وجل من كتابه العزيز، وهي تطوير تفكير الإنسان.
وهذه المسألة لا ترتبط بالمعنى القريب عند حديثنا عن "تطوير تفكير الإنسان"، بالشكل الذي يتبادر إلى الذهن عندما نقول هذه العبارة التي ترتبط بعالم التنمية البشرية، وإنما الأمر أكبر وأعمق بكثير من ذلك.
فعندما نقول إن القرآن الكريم من بين أهم أدوات تطوير قدرات الإنسان على التفكير، فإن ذلك يمتد لكي يشمل –كما تقدم– مسألة فهم الإنسان لذاته، ولحقيقة دوره في هذه الحياة، وما عليه من واجبات فيها، في العبادة وإعمار الأرض، ضمن رسالة الاستخلاف والعمران التي لأجلها خُلِقَ ونزل إلى الأرض.
عندما نقول إن القرآن الكريم من بين أهم أدوات تطوير قدرات الإنسان على التفكير، فإن ذلك يمتد لكي يشمل مسألة فهم الإنسان لذاته، ولحقيقة دوره في هذه الحياة، وما عليه من واجبات فيها، في العبادة وإعمار الأرض
وهذا طبعًا يتضمن أهم الأمور عن معرفة خالقه عز وجل، وطلاقة قدرته، ومعرفة الهدف من خلق هذا الكون، وهذه كلها قضايا معرفية حَفِل بها القرآن الكريم.
وتنقلنا هذه النقطة إلى قضية شديدة الأهمية، وهي الطبيعة المعرفية للقرآن الكريم، أي النص القرآني كمصدر للمعرفة، حيث حفل بالكثير من الحقول المعرفية، التاريخية، والعلمية، وفي مجال العمران والاجتماع، وحتى في الإدارة والسياسة بالمفاهيم المعاصرة.
كذلك في القرآن الكريم، نجد الكثير والكثير من النماذج المعرفية التي تتناول بالدليل العقلي –وهنا وجه كبير من أوجه معجزة الله تعالى في كتابه- أمورًا تخرج عن نطاق العلم المادي المجرَّد الذي يتم التعامل فيه مع الظواهر بالحواس ومعضداتها، مثل أدوات الرصد الحديثة.
فالقرآن الكريم لكي يحدد دقائق عميقة وتفصيلية للغاية في أكثر الأشياء أهمية بالنسبة للإنسان في هذه الدنيا، ويثبتها بالدليل العقلي الذي هو من المفترض أنه لا يتعامل وفق علماء العلم المادي إلا مع كل ما هو ملموس ومحسوس.
وهذا الأمر ليس حماسةً من مسلم لكتاب الله تعالى، وإنما أمرٌ يصدِّقه الواقع عندما نسمع عن إشهار علماء كُثُر في أكثر الدول ماديةً، لو صحَّ التعبير في نمط حياتها وتنشئة الناس فيها بناء على ما فهموه بعقولهم من القرآن الكريم.
فخطاب القرآن للعقل، أمرٌ لا يستطيع أن ينكره أي أحد؛ لأنه ثابت بالنصوص التي تخاطب العقل الإنساني، مثل: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سُورة "العنكبوت"، الآية:20]، وثابت بما صدق الواقع، كما في حالات إسلام الكثير من العلماء.
وبالتالي، ووفق منطق الأمور، فإن القرآن الكريم يأمر مباشرة الإنسان بإعمال عقله، وإعمال العقل هو صنو التفكير ، وهو أمر حتى نجده في المسائل التي تتصل باستنباط الأحكام من آيِ الذِّكْر الحكيم.
فهناك اتفاق بين علماء التفسير والفكر الإسلامي، سواء المتقدمين أو المتأخرين، أو المعاصرين منهم، على أنه لا يمكن معرفة أحكام القرآن الكريم، ولا الانطلاق بمعانيه إلى آفاق التطبيق، من دون اجتهاد فيه، حيث الآيات قطعية الدلالة قليلة العدد مقارنة مع إجمالي آيات القرآن العظيم.
ولو وضعنا أمام أعيننا النموذج العلمي التجريبي في التفكير، والذي يقوم على أساس خطوات محددة، تبدأ بتحديد المشكلة وتوصيفها، ثم وضع احتمالات عنها، وفرضيات مختلفة لمعالجتها، وتجريب كلٍّ منها، قبل الوصول إلى العلاج النهائي، فإننا سوف نقف أمام القرآن الكريم لكي نجد أن ذلك كله موجود فيه.
ففي المسائل الفقهية المختلفة، فإن العلماء يقفون أمام النصوص الشرعية بنفس هذه الصورة، وكذلك أمام أي نص ليس قطعي الدلالة في كتاب الله تعالى، فإن هذه المنهجية هي المعتمدة من جانب العلماء في دراسة مثل هذه النصوص.
والقرآن الكريم في سياق المفاهيم المختلفة لمعنى "التفكير" الذي هو عملية عقلية ترمي إلى الوصول إلى نتائج غير معلومة من معطيات معلومة وغير معلومة، مثل التفكير الإبداعي، والتفكير الابتكاري، فإننا نجد أنها كلها أنماط قائمة في النماذج المعرفية التي جاء بها القرآن الكريم، أو في الأدوات اللازمة للتعامل مع نصوصه لأجل تفسيرها، واستخلاص الأحكام الشرعية منها.
ولعل أهم أنماط التفكير التي يقول بها العلماء، مثل ديوي وويتيدج، وهو نمط التفكير التحليلي، ونمط التفكير النقدي، فإننا نجدها متصلة بشكل كبير بالنص القرآني.
فالتفكير النقدي، باعتبار أنه صور من العمليات الذهنية التي تمكن الإنسان من تقييم النتائج التي توصل إليها، ووضعها في ميدان الموازنة بين الصواب والخطأ، هو من أهم ما يكون في تقييم نتيجة ما لقراءة حكم أو نصٍّ في القرآن الكريم.
أما التفكير التحليلي الذي يرد كل شيء إلى عوامله الأصلية الأساسية أو الأولية، هو في الأصل منهج القرآن الكريم في دعوة الإنسان إلى معرفة حقيقة الخالق وحقائق الإيمان والكون، وغير ذلك من الأمور الأهم في حياتنا، والتي هي في الأصل غاية خلق الإنسان والكون والدنيا كلها.
التفكير التحليلي الذي يرد كل شيء إلى عوامله الأصلية الأساسية أو الأولية، هو في الأصل منهج القرآن الكريم في دعوة الإنسان إلى معرفة حقيقة الخالق وحقائق الإيمان والكون
وفي النهاية، فإن كل ما سبق، إنما هو عناوين عامة فقط لأمور كثيرة، وتفصيلاتها بحاجة إلى دراسات معمَّقة، ولكن أهم ما يمكن الخلوص إليه في هذا الصدد، هو أننا بحاجة إلى إعادة اكشاف القرآن الكريم، باعتبار أنه كونٌ أكبر بكثير مما ينظر إليه البعض، حتى من المسلمين الذين لا يعرفون أن بين أيديهم مصباح الهداية الوحيد لهم في هذه الدنيا بكل تعقيداتها والتباساتها.