يختلط على الناس في وقت الأزمات الصحيح والخطأ وتبرز لدينا مفاهيم ومصطلحات منها ما يخدم المصلحة العامة وهذا هو الصواب، ومنها ما يحاول بعضنا أن يجعله بمقاساته كي يصبح هو المشهد أو فكرته أو نظريته؛ فيسحبه هذا التصور إلى مربع النفاق السياسي، وهنا تمييز كبير بين الموقف الرسمي للحزب أو الفصيل أو الدولة في التعاطي مع المنافسين أو الخصوم أو النظام أو الأمن وبين التعامل الفردي؛ ليجعل العام بمقاسات الخاص كي ينجح في التسلل لما يريد، وهناك ليس نفاقاً سياسياً بل بحثاً عن أوجه التقارب بين المتنافسين وجعل الأخلاق سيدة الموقف من منطلقات ومرتكزات مهمة تخدم العام ولا تقزم الفكرة، وهذه طبيعة تمارسها الفصائل وغيرها من التجمعات بحسب الحاجة والمشورة وما إلى ذلك، وهذا ليس فيه نقاش طالما أنه اتخذ في أروقة الفكرة وصانعي القرار فيها.
نقاشنا هنا عن التفرد ومحاولة التسلل للعام من خلال المقاسات الشخصية ومن كل الأبواب ضمن قاعدة الغاية تبرر الوسيلة؛ فهنا تغيب المعايير ويصبح الجلاد رجلاً فاضلاً ويصبح الظالم أستاذاً ويصبح المستبد رجلاً صنديداً بل وتصل المواصيل إلى انتقاد الفكرة والمبدأ ومهاجتمها في بعض الأحيان كي نصل إلى حالة توافق أو وحدة أو مصالحة أو غيرها من المسميات التي تستخدم للعام ولا يصلح أن تستغل للخاص.
تناقض في التعامل في الميدان نجده هنا؛ سياط وتعذيب وقتل وملاحقة في الوقت الذي يحاول فيه الفرد النفاق السياسي صانعاً بذلك انفصاماً فكرياً للجماعة جاعلاً من التضحية للمبدأ أمراً فيه نظر وخاصة إن كانت تلك الفردية صادرة عن شخصيات إعلامية أو لها تأثير أو قيادية تتصرف باستفراد ليكون النفاق السياسي على حساب الفكرة وعلى حساب المنطق، حيث تغيب كلمة الحق عند سلطان جائر ويغيب العقل عند ظهور المصلحة الفردية وبذاك يحدث التمييع للمبدأ فيقل المتأثرون ويتراجع العازمون ويحبط المؤيدون ويفقد الثقة القائمون عليها وذلك لدخول المعادلة الفردية دون دراسة واتزان تلميعاً وتشجيعاً للظالم في ظلمه وقهره لأصحاب الفكرة نفسها؛ فكان لزاماً على من يعتنق فكرة ومبدأ معيناً أن لا يجعل فرديته تطغى على إطاره العام الأمر الذي يفسد النية ويدخل الشيطان إلى التفاصيل بإرادة وإصرار فاعلها .
في الآونة الأخيرة برزت فكرة التوازي مع العام بخطوات فردية كإنشاء أحزاب بمقاسات سلطة الحكم في تلك الدولة أو بتسحيج لطاغية بحجة النسيج الداخلي أو إنهاء موقف وقضية لظالم بحجة لقمة العيش وغيرها من الملفات التي تتجاهل المبادئ الأساسية للأحرار؛ ثم يبدأ سيل التبريرات حتى يزداد التشتت في أوساط الناس وبذلك ينخر الفكر من الداخل ويصاب بمرض هلوسة الفرد على حساب العام؛ وتراه في مراحل أخرى إن لم يوضع له حد يؤقلم كل المبدأ بما يخدم على أقل تقدير قدرته على العيش بثوب المبدأ وبمسلتزمات الواقع المفروض يسمونه "تكتيكاً" مجملين فيه النفاق السياسي الذي وعبر كل العصور يزيد الظالم ظلماً والمظلوم قهراً.
هنا.. ترى بعضنا يلوم وبشدة على شيخ وداعية أو إعلامي أو مؤثر في بلد خلف الحدود أنه يبرر للمجرم أو يسير في ركبه وترى المهاجمين له كثر ويستهجنون فعله وعندما تراهم في داخل حدودهم فهم يقومون بأسوأ مما قام به من انتقدوه؛ وحينما تسألهم لماذا؟!، يقولون " الراتب، السجن، حسن السير والسلوك، الوحدة الوطنية، أخف الضررين، ممكن إصلاحه" وغيرها من مبررات النفاق السياسي التي تضعف المبدأ، وهنا يكمن الخلل فهم يبررون لأنفسهم نفاقهم للظالم القريب منهم ويهاجمون البعيد لنفاقه للقريب منه.
ترى بعضنا يلوم وبشدة على شيخ وداعية أو إعلامي أو مؤثر في بلد خلف الحدود أنه يبرر للمجرم أو يسير في ركبه وترى المهاجمين له كثر ويستهجنون فعله وعندما تراهم في داخل حدودهم فهم يقومون بأسوأ مما قام به من انتقدوه
وهذه الفعال طبيعية حينما تغيب الجهود الحقيقية للتربية والتنشئة وتصبح المجاملة أهم من المضمون وتكون الشكليات سلاح المستفيد ومنهجه، وبغياب الفعل الحقيقي للمبدأ المقاوم مثلا فإن المتسلقين يسارعون للوصول بكل أشكال المشهد؛ وحينما يأتي وقت التضحية تراهم يفرّون بل وينتقدون ويهاجمون بحجة المصلحة ووجهة النظر ويكثر الفلاسفة والكتاب و...
إن من أخطر الأمراض على المبدأ أن يفسر بنوده فرد يبحث عن مصلحة أو موقع، فهنا تهدر الكفاءة وتضعف الإرادة وتبقى كلماتنا لا حراك فينا جامدة ولا تنتفض، إن هذا المرض في البلدان العربية عززته النظرية الأمنية وخاصة في أوساط الأحزاب والفصائل القوية باختراق فكري يغنيهم عن المتابعة الأمنية ليصبح الجاسوس هنا ليس أمناً وإنما تشويهاً وحرفاً للفكر؛ فيلتقي مريض النفس مع المتعمد مع الجاهل مكونين جبهة قوية لزلزلة أركان المبدأ والتي في النهاية تصب في صالح العدو، وأمثلة كثيرة من الواقع المحلي والدولي أظهرت تلك الزاوية حينما يترك للفرد التصرف بقولبة المقاسات على غرار فكرته.
لذا وجب على صناع القرار أصحاب الخبرة والعمق والأصالة في المبدأ أن يكونوا رادعاً لهوى النفس والنفاق وتسلل السطحيين للمشهد لما في ذلك من تسليم وإهداء للمبدأ على طبق من فضة للروبيضة والنطيحة بحجة الوحدة أو التقارب أو الإصلاح أو أي وسيلة يتصنعها أولئك المتفيقهون لإذابة الحق في الباطل وإخراج ما يروق لهم.