لما كان العلم والتعلم يعبدان الطريق نحو فكر ناضج وواع، يجعل من صاحبه مهندسًا حياتيًا محنكا ذا طاقة متأججة، فينهل من منافع الحياة بأقل الأضرار، ويساهم في نهضة وازدهار مجتمعه، حازا – أي العلم والتعلم – على مكانة مقدسة على الصعيدين الديني والاجتماعي، حتى أن أول ما أنزل على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – كان "اقرأ"، أي دعوة إلى التعلم، فالعلم – كما قال شوقي – يرفع بيتًا لا عماد له. ومن هذا المنطلق، يقاس رقي الأمة وتقدمها استنادا إلى مدى اهتمام واحترام أفرادها للعلم وللعلماء. وسأتناول في هذه المقالة الأحداث المفجعة الأخيرة التي استنزفت هيبة المؤسسات العلمية في الأردن وتفهت مكانتها الشريفة، ما خدش مشاعر العديد من أبنائه، وسأبين دلالتها، والمخاطر المترتبة بسببها، وسبل النجاة.
بادئ بدء، سأسرد بعض الأحداث التي عنيتها في المقدمة:
1.حادثة طرد رئيس جامعة آل البيت من مكتبه "عنوة" ...
في صباح الثالث من أيلول لعام 2018، تسبب "بلطجية" – منهم إداريون وأكاديميون – بحالة غير مسبوقة من الرعب في أروقة صرح علمي كجامعة آل البيت، إثر اختلاف في وجهات النظر حول تعيينات وتغييرات أقرها الرئيس – بالتشارك مع مجلس أمناء الجامعة – في صفوف العمداء ونواب الرئيس، مستخدمين عبارات فظة، غير مكترثين لهيبة الحرم الجامعي.
والجدير بالذكر أن اختلاف وجهات النظر لا يحل بأساليب همجية ترهيبية، ولا بنقاش أصم، بل من خلال تناول دقيق لمختلف الأيديولوجيات بشفافية بغية الوصول لحل يصب في المصلحة العامة. فإذا كانت أساسات النقاش واتخاذ القرار لا تطبق في الجامعات فأين تطبق! وإذا كان مربو الأجيال – أو مهندسو الأجيال – يعانون من الرعونة والتخلف فكيف لعقول يصدرونها أن تنهض بالوطن!
2.فوضى وأعمال عنف وشغب في مدرسة الفيصلية ...
شهدت مدرسة الفيصلية الواقعة في مادبا يوم الثاني من أيلول لعام 2018 أعمال تخريب لمرافق المدرسة من قبل طلاب رافضين لقرار نقل مديرهم السابق من المدرسة، وتخلل الأحداث تكسير لزجاج المدرسة ولبعض المقاعد، وتخريب لسيارة المدير الجديد!
3.تهديد مدير مستشفى البشير بالقتل عقب اكتشاف 800 موظف وهمي ...
تعرض الدكتور محمود زريقات – مدير مستشفى البشير – لتهديدات بالقتل بعدما أقال عددًا هائلًا من الذين اكتشف أنهم مسجلون في قوائم موظفي الخدمات في المستشفى، ويتقاضون رواتبًا، ولا يحضرون للعمل.
ولربما اتجه هؤلاء للعنف ليعبروا عن رأيهم نظرًا لضعف عملية الحوار لديهم بسبب قصورهم التعليمي.
عند تمحيص هذه الأحداث نجد أن مكمن العلة في الفكر المختل عند إحدى شرائح المجتمع، فالعاملون في الجامعة وطلاب المدارس وموظفو المستشفيات السابق ذكرهم ليسوا إلا عينة تبرز صفات جماعة أكبر تحتضن هذا الفكر اللامسؤول، ودليل هذا غزارة الوقائع المماثلة مؤخرا. ومما لا شك فيه أن تفشي سرطان الحمق والرعونة بين مختلف الفئات السنية والتدرجات الأكاديمية يدق ناقوس الخطر لما قد يكون أكثر فداحة مستقبلًا، فمن تسول له نفسه أن يستبيح مكانة المؤسسات العلمية النهضوية لا رادع له من أن يفسد أكثر في حال أتيحت له الفرصة، وإذا ما تم استئصال هذا الدنف عاجلًا لا آجلًا فاقرأ على الأردن السلام!
ولربما أن هذه الآفة نتيجة طبيعية ومتوقعة – وإن انعدم المسوغ لها – لقلة أو انعدام التأهيل الفكري عند الفصيلة السابق ذكرها، بالإضافة إلى التهاون في تطبيق العقوبات الرادعة لمثل هكذا انتهاكات، فلو أن طلاب المدارس مثلًا تحصلوا على الرعاية والتثقيف الكافيين من قبل الأهل والبيئة المحيطة وأيقنوا بوخامة عواقب أفعالهم لتأصل فيهم توقير وتهيب من المنظومة التعليمية ومفرداتها من معلمين ومدارس وجامعات، ولما ازدرت الحالة إلى هذا السوء.
تقف المنظومة التعليمية في الأردن على حافة الهاوية، وتمر بمرحلة مفصلية غاية في الخطورة، ما يتطلب حلا حاسما يتماشى مع جسامة عواقب التسيب الذي سلف والتي يعاني منها ويدفع تكاليفها باهظًا الوطن، وكما اشتهر عن العرب قولهم: آخر العلاج الكي، فقد آن وقت الكي.
وأولى خطوات التغيير هي تغليظ العقوبات لشتى الانتهاكات، بحيث يفصل ويغرم كل من يسيء للمؤسسات العلمية بقول أو بعمل، مهما صغرت الإساءة. ثانيا، لأنك كما تزرع تحصد، يجب انتقاء العاملين في مختلف الدوائر الأكاديمية – أي مربي الأجيال – وفق اختبارات تقيس قدراتهم العلمية ومدى تقيدهم بأخلاقيات العمل، ومن ثم إخضاعهم لدورات تأهيلية لضمان جودة الأجيال التي يصدرونها. ثالثا، إضافة مادة إجبارية لطلبة المدارس والجامعات تحت مسمى "الأخلاقيات" تغرس في عقولهم الفكر السليم والمستقيم.
من المعروف أن التعليم والفكر القويم وجهان لعملة واحدة ... إلا في الأردن، فالمنظومة التعليمية مصابة بانفصام للشخصية، فصار العديد من أبنائنا ينهلون من العلم الوفير، ومن الخلق الزهيد. لكني كلي أمل بأن تتخذ الإجراءات المناسبة وأن يبرأ السقيم من آفته، فمواطنونا جواهر، لكن مربيهم حدادون.